[23]
تكثيف المعاني
الاثنين 10/9/1446هــ
الألفاظ أوعية المعاني، وهي تتفاوت في حملها، فمن الألفاظ ما لا معنى فيه، ومنها ما فيه معنى واحد، ومنها ما هو مثقل بالمعاني، ومن المشكلات التي نعاني منها: فقر خطاباتنا في المعاني، فتحضر خطبة جمعة تجد فيها الخطيب يدور ربع ساعة حول معنى واحد أو معنيين، ويكررها حتى يختم!، وتحضر محاضرة تسمع فيها الملقي يذكر خمسة معان ويسهب فيها ساعة ونصف!، وتقرأ الأوراق تلو الأوراق لا تكاد تجد معنى عميقا تمسك به عند الكاتب الذي تقرأ له! فهل أدركت عمق المشكلة التي نعانيها؟!
تكثيف المعاني هو صفة من صفات الوحي وهي المسماة بـــ"جوامع الكلم"، وصفة من صفات كلام السلف، ولذا كان كلامهم قليل نافع، وكلامنا كثير لا نفع فيه، وهو أصل العلم وأساسه، فالعلم ما جاء غزيرا مكثفا، أما نثر المعاني وتفرقتها فليس من العلم في شيء، وها أنت تجد طلاب العلم الذين يدرسون على من تصدر قبل التأهل يخسرون كثيرا، لأنه يفوتهم هذا التكثيف الذي يتميز به العلماء الذين تصدروا بعد التأهل، فيمكثون السنوات الكثيرة في تحصيل معان قليلة، بخلاف الطلاب الذين يدرسون عند العلماء يحصلون معان كثيرة في وقت وجيز، وقل مثل ذلك عند الخطباء المتمكنين تجد من يحضر لهم قد حصّل معان غزيرة في وقت وجيز، بخلاف الخطيب الضعيف الذي يحضر له جماعته عشر سنوات على معان محدودة مكرورة!
كيف أكثف المعاني في خطابي؟
1- كن مستعدا لبذل جهدك ووقتك لتحصيل هذا المقام العالي، فلكل شيء ثمن، وتكثيف المعاني من أجل المطالب.
2- أن تعتني بالإعداد، فلا يمكن لمن لا يعد أن يكون حديثه مكثف المعاني، وكلما زدت جهدك في الإعداد زاد التكثيف، ولا يستغني عن الإعداد أحد ولو كان عالما، لأن وجود العلم غير استحضار المعاني، وهذا هو السبب في عدم متانة حديث بعض الملقين رغم غزارة علمه، في مقابل متانة حديث شخص علمه قليل، فالأول اغتر فلم يعد.
3- الاهتمام أثناء الإعداد يجمع المعاني لا بجمع الألفاظ، فالسائد عند كثير من الملقين الاهتمام بجمع الألفاظ، فتجده يقول: بحمد الله حضّرت مائة ورقة في الموضوع، وهذا ليس معيارا لأنه جمع للألفاظ لا المعاني، فالعبرة ليس بكم الألفاظ وكثرة الأوراق، وإنما بما فيها من المعاني، فكم تحوي أوراقك من المعاني في الموضوع؟
4- العناية بكتابة الكلام، لأن الكتابة صديقة المعاني، سواء أردت الإلقاء من ورق، أو الإلقاء ارتجالا، فإن أردت الأول قرأت أوراقك، وإن أردت الثاني حفظتها وألقيتها.
5- التدرب الطويل المستمر على تمتين الألفاظ، فإذا جئت لتصوغ العبارات فإنك تحشوها بأكبر قدر من المعاني، وستجد معاناة أول الأمر ثم تكون لك سجية لا تستطيع التخلي عنها.
6- كثرة القراءة لمن هذه صفته، فإن القراءة أجود من السماع من حيث كثافة المعاني، ثم إن القراءة لمن تميز بهذه الصفة تكسبها بشكل أكبر.
7- السرعة في الإلقاء، ومعنى السرعة هنا: أن يعطى الكلام حقه من الوقت دون تمطيط، فإن بعض الملقين قد تعود على تمطيط الكلام، وتوزيع المعاني القليلة على الساعات الطويلة، فقد تكون مادته في ربع ساعة لكنه يختار أن يلقيها في ساعة كاملة فتفقد التكثيف!
8- أن تتذكر أنك المنتفع قبل الناس بهذا التكثيف، فأنت تحصّل أكبر قدر من العلم بهذه الطريقة، ثم إن الناس ينتفعون بحديثك جدا، ويكون في طريقتك اختصار أوقاتهم.
أخيرا.. من أسباب ترك التكثيف عند بعض الملقين خشية انتهاء ما عنده، فيقول: إذا كثفت المعاني فإن ما عندي من العلم سينفد سريعا وأكون في موقف محرج، والجواب عن هذا من وجوه:
o أولها: أن الأصل أنك مستمر في التحصيل والعطاء، فلو كنت تتعلم باستمرار فلن يقع لك ما تخشاه.
o وثانيها: أنك بترك التكثيف ستخسر علما غزيرا.
o وثالثها: أن من كثف حديثه سيجد صعوبة مع الأيام في إدارة علمه إذا كثُر، تحريرا، ومراجعة، ونشرا، فكيف بمن لمن يكثف ستكون المشكلة بالنسبة له أكبر، وسيفقد السيطرة على علمه وتراثه!
سؤال اللفتة: عدد ثمرات تكثيف المعاني؟
اللهم سدد أقلامنا وألسنتنا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق