الأحد، 9 مارس 2025

لفتة (22) إضاءات المشعل

[22]

إضاءات المشعل

الأحد 9/9/1446هــ

تشرفت قبل أيام بزيارة الشيخ الدكتور مشعل بن عبد العزيز الفلاحي -وفقه الله تعالى-، وقد كان كريما بوقته وعلمه، ورأيت منه بشاشة الاستقبال، وجمال الترحيب مرددا في دخولي وخروجي "مرحبا ألف.. مرحبا ألف"، ولمّا كانت مثل هذه اللقاءات غزيرة بالأفكار، مشبعة بالفوائد، أحببت أن أنتخب من هذا المجلس أجود الإضاءات وأدونها نفعا لنفسي وإخواني:

1-   ابتدأت بالحديث معه عن تدبر القرآن، فكان أجمل ما سمعت منه أن قال: "أعتقد أن الأمة لا تزال مقصرة في حق تدبر كتابها، فقد بُذلت جهود كبيرة في التفسير عبر القرون، لكن تدبر نصوص الوحيين لم يأخذ حظه بعد، وهذه النصوص كنوز، علينا أن نفتحها ونستخرج ما فيها من الجواهر واللؤلؤ وننتفع به"، وهذا الكلام عظيم والله، فمتى نلتفت إلى وحي ربنا وندخل إليه معظمين، متدبرين، مستخرجين حلول مشكلاتنا وإجابات أسئلتنا؟!! وهذه معنى عظيم يحتاج إلى ترجمته عمليا عبر برامج وخطط.

2-   سألته عن اغتنام رمضان فقال لي: "أولا ينبغي أن تكون علاقتنا بالتعبد طيلة العام لا في رمضان فقط، وإذا قرُب رمضان فاشحن نفسك إيمانيا بسماع كل ما تقع عليه من المحاضرات، وكل ما تجده من الكتب حتى تُشحن نفسك، ثم اقرأ كتابي: "رمضان يبني القيم" فقد وضعت فيه خلاصة رؤيتي عن رمضان، وأحسب أنه جمع المعاني التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها عن رمضان، ثم اكتب خطتك لرمضان واجعلها قسمين: قسم للعشرين الأولى، وقسم للعشر الأواخر".

هنا يدلنا الشيخ مشعل على ثلاثية الاغتنام: (التعبد الدائم، تحفيز النفس، التخطيط المتقن) ثم العمل بذلك، وهنا تنبيه وهو: أن تحفيز النفس لا يتحقق إلا بسماع كم كبير من المحاضرات الإيمانية، وما يحصل من انتخاب يجري عادة في شعبان ويُتداول إنما هو للتفضيل لا الحصر، ولا يغني عن الكثرة، لأن النفس لا تتحمس لشيء حتى تتشرب معانيه، لا سيما مع قلة المحاضرات الإيمانية في المساجد.

3-   انتقلنا للدعاة فطلبت وصيته لهم، فقال: "أوصيهم بتجويد المضمون والطريقة، فأما تجويد المضمون فيتحقق بأن يقرأ الداعية في الكتب قراءة جادة، ثم يُخرج أجود ما يقف عليه ويقدمه للناس، وأما تجويد الطريقة فيحصل بتعلم الداعية مهارات الإلقاء وفنونه، حتى يكون إلقاؤه ساحرا، فإذا جئت تحضر لمثل هذا وجدته يقدم لك مادة عميقة بأسلوب مشوق، تتمنى ألا يسكت من حلاوة حديثه، أما إذا غابا فإنك تجد داعية يحكي معلومات عامة مكرورة، مع كثير من السوالف، بأسلوب باهت ضعيف!".

4-   داعبته قائلا أشعر أثناء قراءة بعض تغريداتك وكأنك ستخرج لي من الجهاز من شدة حماسك، فمن أين تأتي بهذه الحرارة؟ فضحك كثيرا ثم قال: "من السير الذاتية، وأوصيك بأن يكون لك فيها نصيب يومي، فإنها تلهبك لصناعة مجدك الشخصي، وتحقيق مشروعك العمري، مع العلم أن كثيرا من السير لا تجد زبدتها بسهولة، ولذا أردت أن أعالج هذه القضية فاخترت خمس سير مميزة، واستخرجت زبدتها في كتابي "قصص الناهضين".

5-   مررنا على مشروع العمر ولم نتعمق فيه، وكنت أود الدخول في ذلك، لأن الشيخ مشعل أخذ فكرته من شيخنا عبد الله بن محمد الشهراني -رحمه الله-، ثم كان له في الفضل في ترجمتها عمليا إلى كتاب: "مشروع العمر"، الشاهد أنه حدثني عن أبي لهب كنموذج على رجل مشروعه نصرة الكفر -والعياذ بالله-، فقال: "تدبرت في سورة المسد فوجدت أن أبا لهب قد اتصف بثلاث صفات:

o      الأولى: أنه صاحب مشروع في حياته، ومشروعه نصرة الكفر، فقد كان يقف مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل موقف ليشغب عليه ويشوش على دعوته، ولم يكل يوما أو يمل.

o      والثانية: أنه اتصف بالمبادرة، وهذه من أهم صفات أصحاب المشاريع، فعندما صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ليدعو الناس كان هو المبادر للتكذيب قائلا: "تبا لك، ألهذا جمعتنا؟!" فهذه المبادرة لا يستطيعها كل أحد.

o      والثالثة: أنه لم يكتف بعمله في هذا المشروع بل أشرك زوجته معه، وأخرجها من بيتها لتشاركه الهم، فشاركته وبذلت نفسها كما بذل، وكل هذه الجهود لمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال دعوته، فكان جزاءهما عذاب الجحيم".

6-   انتقلنا لمشاريعه الخاصة فقال لي: "للتركيز والاستمرارية مفعول السحر في الإنجاز، فإياك إياك أن تحيد عنهما، وقد من الله علي بضبط القرآن وإتقانه بعدما ركزت عليه وتفرغت له، فقد كانت تمضي علي السنوات واحدة تلو الأخرى ولا أصل إلى مبتغاي وأرى من فتح الله عليه وأتقن، وأصبح يسرد القرآن بكل يسر وسهولة، فلما سألت وتأملت وجدتني أفقد التركيز فصببت نفسي عليه حتى ضبطته ولله الحمد، وبعد مدة كان مشروعي أن أفسر القرآن كاملا وأتدبره فتركت كل مشاريعي وتفرغت للتفسير، أمكث ثلاث عشرة ساعة في اليوم إلى خمسة عشرة اقرأ في التفسير وأكتب، ثم أتدبر وأكتب، وهكذا حتى ختمت القرآن كاملا في ستة أشهر، وخرج هذا المشروع في ستة مجلدات بعنوان: "رحيق التدبر"، فقلت له: ألا تمل مع هذه الساعات الطويلة؟ فقال: "في داخلي شغف لهذا المشروع لا يسمح للملل بأن يتطـــــرق إلي، لا سيما كلما تذكرت لحظة موتي وأنها قد تباغتني في أي لحظة، وفي النية بإذن الله أن أكتب تدبرا مطولا للقرآن، وقد بدأت فيه".

الحقيقة أن هذا الكلام ألهمني، لأنني أعتقد أن أجل مشروع للمسلم ختم تدبر الوحيين، ومن الأسئلة التي كانت تدور في ذهني: كيف للمسلم أن يختم تدبر القرآن وهو مشروع طويل؟ فيأتي الفلاحي ليقدم لنا أحد الإجابات لهذا السؤال، وهي إمكان ختم تدبر القرآن بطريقة عجلى ثم تعود له أخرى لتدبره على مهل، فيحصل لك شرف تدبر القرآن كاملا.

7-   لفتتني كلمة عجيبة ذكرها أثناء الكلام عندما قال: "مشاريعي الرئيسية سأنهيها -بعون الله- في ثلاث سنوات، ثم أشتغل بالزيادة عليها، وبالمشاريع الأخرى الفرعية بعد ذلك"، وهذا يشير أن الشيخ بارك الله له وحقق له أكثر مما يتمنى عنده جملة من المشاريع الواضحة، وهي مقسومة إلى رئيسية وفرعية، وأن مدة إنهائها محددة، فتأمل يا صاحبي!

8-   في الحديث عن التفاسير أشار لي بفكرتين:

o      الأولى: أن "المختصر في تفسير القرآن الكريم" كتاب جليل فيه من التحرير ما فيه، وأنه قريب منه دائما يقرأ فيه ويراجع، وقد أعجبني هذا الرأي لأني أتبناه، على خلاف من يزهد في هذا التفسير لصغره، ظانا أن فائدته قليلة، والحقيقة أن فيه جهدا مبذولا، ومعانيه غنية مشبعة.

o      الثانية: أن الأصل في كتب التفسير أنها تهتم بذكر المعاني، وقليل هو التدبر فيها، لكن فيها لفتات جليلة، لو وقف عليها طالب العلم وعالجها بأسلوبه التربوي لفجر منها معان بديعة.

9-   ختمنا حديثنا بأهمية ضبط العلم على طريقة الكتاب المعتمد، وحدثني عن تجربته الشخصية في ذلك، وأنه قد كتب لنفسه كتبا معتمدة في العلوم الأساسية، ثم أصبح يصب ما يجده من فوائد الكتب فيها، فكلما اشترى كتابا جديدا أخرج ما فيه من الفوائد وصبه في الكتاب المعتمد، حتى أصبح كتابه غنيا وقل أن يجد فوائد جديدة في الكتب التي يقرأها.

بعد هذه الجولة الماتعة في الدرر المشعلية أتوقع أن همتك اشتعلت كما اشتعلت همتي، ويا سبحان الله كلٌ له من اسمه نصيب، فمشعل يشعل الهمم ويدفعها لخدمة الإسلام.

اسأل الله أن يبارك له فيما أعطاه، وأن يوفقه لتحقيق ما يتمنى في الدنيا والآخرة.

سؤال اللفتة: كيف ستلهمك هذه التجربة في مشروعك العمري؟

اللهم استعملنا ولا تستبدلنا..


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...