الجمعة، 7 مارس 2025

لفتة (19) العلم المحرر

[19]

العلم المحرر

السبت 9/8/1446هــ

تأملت في أحوال مشايخنا الأجلاء فوجدت أن بعضهم لم يعتني بتحرير علمه، لا من جهة تحرير المسائل، ولا من جهة تدوينها مكتوبة، والباعث على هذا غالبا هو التسويف، فقد تعود على تأجيل التحرير من أجل إنجاز الأعمال العاجلة، ففي المؤلفات يبدأ بكتابة بضع صفحات ثم يقرر تحريرها لاحقا، وفي تحضير الدروس يبحث المسائل ويلقيها دون تحريرها كتابيا، والنتيجة التي يصل إليها بعد سنوات تراكم علم كثير غير محرر، مع صعوبة التنقيح إذا تقدم السن، لأنه كلما تقدمت السنوات كثُرت الأعمال، وضعفت الصحة، وتكون النتيجة بعد ذلك خسارة الشيخ لنفسه، وخسارة الأمة لعلمه -والله المستعان-.

ومن المواقف في ذلك: أنني سألت أحد مشايخي عن دفاتره التي سطّر فيها علمه حتى نخرجها له ككتب، فقال لي: عندي كراتين كثيرة مليئة بمفكرات الجيب، لأن كل تحضيري وتعليمي الناس على طريقة رؤوس الأقلام، فأنا أحضّر وأتعب في التحضير، ولا أدون منه إلا رؤوس أقلام لتذكرني، فهل يمكن إخراج هذه المفكرات؟ فقلت: للأسف ليس لها أي قيمة!

وتحدث أحد العلماء في محاضرة عن تجربته، وذكر مما ندم عليه أنه طلب من مكتبه العلمي أن يفرغوا دروسه ليراجعها ثم يخرجها، فتفاجأ بكثرة استطراداته في الدروس مما أفسد عليه الشروحات، وأن تحرير شرح جديد بيده أهون من تنقيح آلاف الصفحات المختلطة!

وأخبرني أحد طلاب العلم أنه خدم شيخه بفتح موقع إلكتروني له، وقال لشيخه: هذا الموقع فتحته لتنشر علمك فيه، فقال الشيخ: تراثي عشرة آلاف صفحة غير محررة، أريدك أن تحررها ثم تنشرها، فقال الطالب: أقدّرك وأجلّك لكن هذا أمر لا يمكن أن أقوم به، فوقتي ضيق من جهة، وهذا تراثك من جهة أخرى لا يمكن أن يحرره أحد غيرك، فهي أقوالك، واختياراتك، وفتاويك، وإلا قولتك ما لم تقل!

وأخبرني أحد مشايخي أن عنده مئات المشاريع التي لم تكتمل، وأراني مسودات مئات الملفات بين كتب، ورسائل، وخطب، ومقالات، وغيرها من المواد التي تحتاج إلى تحرير، وبيّن لي تعبه الكبير في كتابة هذه المسودات منذ أربعين سنة، وهو في نفس الوقت لم يحرر ويخرج منها للناس إلا بضع رسائل صغيرة!

وفي هذه القضية أسئلة:

السؤال الأول: متى يبدأ طالب العلم في التحرير؟

·       الجواب: من أول الطلب، فيحرر المسائل، والشروحات، وكل ما عنده أولا بأول.

·       ولا يفهم من التحرير النشر، وإنما هو يحرر لنفسه.

·       وكلما تقدمت الأيام زاد علمه وزادت جودة تحريراته.

·       فإذا كبُر وتصدر كانت المواد التي تحتاج إلى تحرير قليلة، وذلك لأنه قطع شوطا كبيرا في التحرير من أول حياته.

السؤال الثاني: ماذا يحرر طالب العلم؟

·       شروحات المتون.

·       الأبحاث والمؤلفات.

·       الكلمات، والخطب، والمحاضرات.

·       المقالات.

·       آراؤه في المسائل المختلفة.

السؤال الثالث: ما ثمرات التحرير؟

·       أولها: اختصار العمر، فإذا حرر شرحا سهُل عليه تدريسه في أي زمان ومكان، وسهُل عليه طباعته إن أراد.

·       وثانيها: إقبال الطلاب على الشيخ، لأنهم يحصّلون علما غزيرا في وقت قصير، فيقفزون معه قفزة نوعية.

·       وثالثها: ارتقاء الشيخ، لأنه كلما حرر مادة انتقل إلى غيرها من العلم، بخلاف تارك التحرير فإنه يبقى دائرا في منطقة لا يستطيع تجاوزها.

·       ورابعها: غزارة عطائه، لأنه لا يحتاج إلى كثير تحضير وإعداد، فزاده معه.

سؤال اللفتة: كيف ستؤثر هذه اللفتة عليك في تحرير علمك؟

اللهم انفعنا وانفع بنا.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...