[14]
أين المتانة؟
الأربعاء 1/7/1446هــ
منذ بدأت في طلب العلم وهم الحذق فيه مسيطر علي، ودائما أبحث عن أسراره، من خلال التأمل، والسماع، والملاحظة، والسؤال، ومن آخر الأسرار التي وقفت عليها في هذا الباب: سر المتانة، والذي أبوح لك به في هذه اللفتة:
- ألا تلاحظ معي أن كثيرا من الدروس العلمية قليلة النفع؟
- ألا تجد أنك تخرج من كثير من الدورات العلمية بفوائد معدودة، بل تخرج من بعضها بلا شيء؟
- ألا تلاحظ أن مستوى طالب العلم لا يقفز رغم مرور السنوات الطوال؟
- لماذا نجلس عند مشايخنا عشرات السنين ونخرج بحصيلة لا تذكر؟ بينما يجلس من قبلنا سنوات قليلة وينبغون؟
أحد الإجابات الجليلة على الأسئلة الماضية: غياب المتانة العلمية، فنحن ندرس علما هشا فيه القليل من المعلومات والمسائل والقواعد، والكثير من التأملات، والاستطرادات، والإطالة الزائدة، وتدريس ما لا يناسب الطلاب!، ولا تغرنك صورة العلم الظاهرة من وجود الدروس وقيام المشايخ فيها بالتدريس، لأن العبرة بحقيقة العلم، فهل دروسنا تحوي حقيقة العلم ولبه؟ درس واحد عند شيخ متين يساوي خمسين درسا بل مائة عند شيخ ضعيف! وهذه هي الحقيقة المؤلمة.
تقريب هذا المعنى بصورة حسية يجعله واضحا عندك أكثر، فمن معايير جودة الدرس: ومتانته كمية ما تخرج به من المعلومات من جهة، ونوعيتها من جهة أخرى، ولا يخدعنك أحد بالحديث عن مهارات التعلم وضرورتها، وأن العلم موجود اليوم وليس من وظيفة الشيخ تقديم المعلومات بل يكتفي بإكسابك المهارات وأنت تحصل العلم بنفسك، بل هذه من الخرافات التي ضيعتنا، فإن طلب العلم قائم بالدرجة الأولى على ما عندك من المعلومات، والمعلومات هي الفارق بين المتعلم والجاهل، وسبب تفاوت العلماء ما عندهم من المعلومات كما وكيفا، بالإضافة إلى التعبد.
خذ هذا المعيار وطبقه على الدروس التي تحضرها وانظر النتيجة، حضرت درسا فقهيا قبل سنوات ومكثت فيه سنة كاملة فوجدت أنني لم أملئ خمس صفحات من فوائد ذلك الدرس، فأدركت أنني لم أتحرك في الفقه شبرا، وحضرت أخرى درسا في التفسير لمدة تسعة أشهر ووجدت أنني خرجت بثلاثة أوراق فقط! بينما حضرت دورة لشيخنا العلامة وليد السعيدان فوجدت أنني كتبت ثلاثين صفحة بين مسودة ومبيضة، وفيها من الدرر ما فيها، وجربت أن أفرغ من دروسه على اليوتيوب فتعبت لصعوبة التفريغ، فكل كلامه محرر متين، ووجدت الأمر نفسه مع دروس الشيخين عبد الله العنقري وعبد السلام الشويعر، فهل فهمت مرادي؟! كن بصيرا بحقيقة الدروس لا صورتها، فقراءة المتن، وشرحه أو التعليق عليه، واستخدام الخرائط والعروض والتمارين، كلها وسائل، والغاية في المضمون، فما هو المضمون؟!
وأحيانا يكون ضعف الدرس من جهة قلة مجالسه وتباعدها، فعندما يكون الدرس شهريا أو نصف شهري، فإنه لن يؤدي الدور المطلوب منه -ولو كان متينا-، لا سيما مع التوقفات للإجازات والأعذار المتنوعة.
إذا فهمنا هذه القضية وعملنا بها ستواجهنا صعوبة أخرى لدينا كطلاب علم، وهي الصبر على تحمل العلم المتين، فإن كثيرا من طلاب العلم قد وجد شيخا متينا، وكتابا متينا، لكنه تألم من ثقل العلم، فعاد إلى الراحة والبحث عن العلم الخفيف!
ألا تجد أن الشيخ الذي يطرح طرحا خفيفا من الناحية العلمية، ولا يلزم بالتحصيل من الناحية العملية يكثر طلابه؟! فطالب العلم الكسول -وأنا منهم-، والعامي الذي يلبس ثوب طلاب العلم، يجتمعان في دروس المشايخ الخفيفة، ولا يفرق الشيخ بينهما -وهو السبب في ذلك-، فلو أنه جعل الدروس العلمية قسمان، قسم متين ثقيل لطلاب العلم، وقسم خفيف لعامة الناس، فالدروس المتينة تمتاز بغزارة معلوماتها، وبتدرجها مع الأيام، مع إلزام الطلاب بالحفظ، والضبط، والقراءة، والإتقان، ويستغنى عن المقصر في الحضور والتكاليف، والدروس الخفيفة تقدم مادة علمية ترفع الجهل عن عامة الناس ولا تكلفهم بشيء، لميزنا طلاب العلم من عامة الناس، ولحصل النفع لكل منهما!
كيف أربي نفسي على ثقل العلم؟ سؤال يدور في ذهنك وأنت تقرأ هذا الأسطر، وجوابه في الاستعانة بالله أولا، ثم في العناية بالتعبد ثانيا، فإنه على قدر عبادتك يسهل عليك حمل العلم، وعلى قدر تفريطك تجد من ثقله، وانظر إلى الأيام التي تترك فيها قراءة وردك من القرآن أو تقصر في عبادتك، تفتح عليك أبواب المعاصي ويكون العلم ثقيلا عليك، ثم يأتي ثالثا الإكسير وهو مجاهدة النفس، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فوصولك مرتبط بمجاهدتك بنص الآية لكن كم نصيبك منها؟ المجاهدة تنقلك من الحالة التي أنت فيها إلى الحالة التي تتمنى الوصول إليها، ولكن غالب نفسك وجاهدها، وستجد أنك تنجح مرة، وتنجح هي عليك مرة، ومع الأيام تصل بعون الملك.
كتبك لك هذا السر وأرجو أن يأخذ حظه وقدره من الاهتمام، وإن لم تفعل فلا تنتظر أسرار أخرى!
سؤال اللفتة: كيف ستترجم هذا السر إلى برنامج عملي؟
اللهم افتح لنا في العلم والعمل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق