[9]
منارات الاعتكاف
قال ربنا سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ قال ابن سعدي: "ومن صلاحِهِم - أي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب- أنَّه جعلهم أئمةً يهدون بأمره، وهذا من أكبر نعم الله على عبده: أن يكونَ إماماً يَهتدي به المهتدونَ، ويمشي خلفَه السالكون، وذلك لمَّا صبروا، وكانوا بآياتِ الله يوقنونَ، فجمعوا ثلاثا:
الأولى: هداية الناس بدين الله لا بأهوائهم.
والثانية: فعلهم الخيرات ودعوة الناس إليها.
والثالثة: أنهم كانوا لله عابدين، ﴿وكانوا لنا﴾؛ أي: لا لغيرنا ﴿عابدينَ﴾؛ أي: مديمين على العبادات القلبيَّة والقوليَّة والبدنيَّة في أكثر أوقاتهم، فاستحقُّوا أن تكون العبادة وصفَهم، فاتَّصفوا بما أمر الله به الخلقَ، وخَلَقَهم لأجلِهِ".
رمضان مدرسة التعبد العامة، والاعتكاف مدرسته الخاصة، والمغتنم لرمضان ينتقل من التعبد الممزوج بالدنيا إلى التعبد الخالص، وأما المفرط فإنه يجد فرصة للتدارك، لا سيما أن آخر الشهر خير من أوله، وهذا من فضله سبحانه.
أيها المبارك: لا طعم للحياة في العشر الأواخر إلا في اعتكاف المساجد، وإكثار الختمات، وطول الركعات، والعيش مع صحبة صالحة تعينها وتعينك على طاعة الله سبحانه، وهي عشر أخروية فريدة لا تتكرر في العام إلا مرة، فحري بالمؤمن أن ينطلق إلى الاعتكاف تاركا الدنيا التي أشغلته العام كله حتى لا تشغله خير ليالي السنة أيضا، ومما يزيد أهمية الاعتكاف والحاجة إليه: ندرة البرامج الإيمانية، لا سيما زمن الفتن الذي نعيشه، فالاعتكاف برنامج إيماني متكامل، يخرج منه المعتكف بقلب غير الذي دخل به.
عبادة الاعتكاف تُطرق من ثلاث زوايا: الزاوية الفقهية، والزاوية الإيمانية، والزاوية التربوية، ففي الأولى تتعرف على أحكام الاعتكاف الفقهية، وفي الثانية تعرف مقصد الاعتكاف والأعمال المستحبة فيه، وفي الثالثة تستفيد جملة من التوجيهات العملية للاعتكاف، وحديثنا هذا في الزاوية التربوية، فمن أراد أن ينتفع بمدرسة التعبد الخاصة فينبغي أن يكون فقيها في كيفية الدخول إليها والعمل فيها، وإليك أيها المعتكف ستين منارة من منارات الاعتكاف:
· المنارة الأولى: يتأكد على الدعاة والمربين أن يدعو الناس إلى الاعتكاف ويربوهم عليه، فالحث على الاعتكاف قليل والتربية عليه أقل، وقد ذكر هذه الملاحظة في زمن مبكر للأمة ابن شهاب الزهري -رحمه الله- المتوفى في القرن الثاني حيث قال: "عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَاف وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ"، ومن النافع في الدعوة إلى الاعتكاف الحديث عنه من أول رمضان كما نتحدث عن الصيام والقرآن، هذا من جانب نظري، أما من جانب عملي فننتخب جملة من الناس عموما ومن الشباب خصوصا ونربيهم عليه لا سيما طلاب العلم وحفظة القرآن.
· المنارة الثانية: تيسير الاعتكاف لمن هو معتاد عليه مكسب، لكن تربية من لا يعرفه مكسب أكبر، فيميل القائمون على برامج الاعتكاف أحيانا لتخفيف التعب على أنفسهم باختيار من يعتكف معهم سنويا لأنه قد شق طريقه في التعبد، ويستثقلون إدخال من لا يعرف الاعتكاف -خاصة من الشباب- لما يجدونه من هم المتابعة والتربية، والأصوب تربويا أن يكون نصف المعتكفين من القسم الأول، ونصفهم من القسم الثاني، لأن من يعرف الاعتكاف وذاق لذته سيعتكف عندك أو عند غيرك، بل قد يعتكف لوحده إذا لم يجد برنامجا جماعيا، لكن من لا يعرف الاعتكاف كيف يعرفه ويتربى عليه؟!!
· المنارة الثالثة: نزهد أحيانا فيمن لا يعرف الاعتكاف ولم يجربه، ولا يكون عندنا صبر على أخطائه، وعلاج ذلك في أربع:
o أولها: أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وهذا من الإيمان.
o وثانيها: تكرار قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قال ابن سعدي: "فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم، فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه".
o وثالثها: إدراك أن قوة الإيمان لا تأتي دفعة واحدة، بل يتدرج العبد شيئا فشيئا في تحصيلها.
o ورابعها: لو لم يكن من اعتكاف مثل هذا إلا معرفة الاعتكاف، ورؤية المتعبدين، والمحافظة على تكبيرة الإحرام، والسلامة من الذنوب والمعاصي لكفى بها من ثمرات.
· المنارة الرابعة: من الناس من يعتكف وأهله بحاجة إليه، أو ينهاه والده عن الاعتكاف لأسباب مقنعة، أو عنده أولاد إن لم يكن معهم ضاعوا، فهذا إن اعتكف فعل سنة وترك واجباً، فلا ينبغي له أن يعتكف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً)، أما المتفرغ فالاعتكاف في حقه مشروع، ومن احتاجه أهله أول العشر ثم حصل الاستغناء عنه في أثنائها اعتكف بقية العشر، وهو مثاب على ذلك -إن شاء الله-.
· المنارة الخامسة: اعلم أيها الموفق أن الاعتكاف درجات وليس درجة واحدة إما أن تأتي بها وإما أن تتركها:
o الدرجة الأولى: اعتكاف العشر كلها، وهذا الأكمل والأفضل.
o الدرجة الثانية: اعتكاف بعض العشر، كاعتكاف أيام الليالي الوترية: (٢١، ٢٣، ٢٥، ٢٧، ٢٩).
o الدرجة الثالثة: اعتكاف بعض الليالي الوترية، مثل (٢٥، ٢٧، ٢٩)، لأنها مظنة ليلة القدر.
o الدرجة الرابعة: اعتكاف ليلة واحدة كليلة ٢٧ مثلا، فيبدأ اعتكافه قبيل المغرب، وينتهي مع أذان الفجر.
فإذا صعب عليك الاعتكاف فتدرج من الجزئي إلى الكلي، ومن الجماعي إلى الفردي، فتعتكف الليالي مع مجموعة، ثم تعتكف اعتكافا كاملا مع مجموعة، فإذا قويت اعتكفت العشر بمفردك، المهم أن تأخذ بنصيبك من هذه العبادة الجليلة.
· المنارة السادسة: اختر مسجد مناسبا للاعتكاف، يتميز إمامه بالصلاة الطويلة والقراءة الندية، مع وجود برنامج للاعتكاف، أو من يعينك على إقامته.
· المنارة السابعة: يعتنى في نية العبادة -ومنها الاعتكاف- بأمرين:
o الأول: إخلاصها، فيعتني المعتكف بنيته عناية بالغة قبل الاعتكاف، وأثناءه، وبعده، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، فالنية تتقلب تقلبا شديدا لاسيما مع رؤية الناس المتكررة للمعتكف، وإن لم يفعل خسر ورب الكعبة وصرف عبادته لغير الله -والعياذ بالله-.
o الثاني: تعددها، فينوي المسلم أكثر ما يستطيع عليه من النيات طلبا لمزيد من الأجر والثواب.
· المنارة الثامنة: هيأ نفسك للعبادة قبل الشروع فيها، بتحصيل مادة الاعتكاف الفقهية والإيمانية والتربوية، عن طريق قراءة الكتب، وسماع الدروس، قال خير معتكف -صلى الله عليه وسلم-: (مَن يُرِدِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين):
o ففي المادة الفقهية استمع: "شرح كتاب الاعتكاف من بلوغ المرام" للشيخ هاني الفهيد في مجلس واحد، أو اقرأ باب الاعتكاف من كتاب: "الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة" لنخبة من العلماء.
o وفي المادة الإيمانية اقرأ: "حينما يعتكف القلب" للشيخ عبد الرحمن العقل، وكتيب "في رحاب ليلة القدر" للشيخ صالح العصيمي، وكتيب "فضائل ليلة القدر وتحريها" للشيخ عبد السلام الشويعر.
o وفي المادة التربوية اقرأ: "الاعتكاف نظرة تربوية" للدكتور عبد اللطيف بالطو.
ويحسن بمن يقوم على برامج الاعتكاف أن يرتب ثلاثة مجالس للمعتكفين قبل العشر في أحكام الاعتكاف، حتى يدخل المعتكف وهو متقن لخلاصة الاعتكاف الفقهية والإيمانية.
· المنارة التاسعة: ألذ الاعتكاف هو الاعتكاف الكامل الذي لا تخرج منه إلا ليلة العيد، ولذا قرر أن تدخل المعتكَف عصر العشرينَ من رمضان، ولا تخرج منه إلا ليلة العيد، وهذا يقتضي منك خمسة أمور:
o أولها: أن تأخذ إجازة إذا كنت موظفا، والعبادة خير ما صُرفت فيه إجازة العمل.
o وثانيها: أن تنهي تجهيزات العيد لك ولعائلتك، حتى لا يكدر عليك هذا الأمر أو يقطع اعتكافك.
o وثالثها: أن توكل في إخراج زكاة الفطر، أو تتفق مع فقير تعطيه إياها ليلة العيد أو صباحه.
o ورابعها: أن تجهّز كل ما تحتاجه في الاعتكاف وتحتاط لذلك، خاصة في الملابس والأدوية حتى لا تضطر للخروج.
o وخامسها: أن يجامع المتزوج أهله، ولا يلبّس عليه الشيطان ترك هذا لخلاف أو ما أشبه.
· المنارة العاشرة: أنصح أحبتي مشرفي برامج الاعتكاف، وطلبة العلم الذين سيلقون دروسا للمعتكفين بأمرين:
o أحدهما: أن يكون إعدادك لما ستلقيه قبل الاعتكاف، لأن وقت الاعتكاف ضيق وستكون بين أمرين أحلاهما مُرّ: تحضير سريع لا يشبع، أو تحضير جيد على حساب العبادة.
o والآخر: أن تحرص في طرحك الإيماني على الجمع بين الوعظ والمنهج، فبالوعظ تنهض النفوس، وبالمنهج تبصر طريق التعبد وتسير عليه.
· المنارة الحادية عشرة: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر السهر، ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يَخلِطُ العشرين بصلاةٍ ونوم، فإذا كان العشرُ -يعني: الأخير- شمَّر وشدَّ المئزر) رواه أحمد، وإذا كنت ممن ينام الليل فاسهر ليلة العشرين حتى يتعود جسدك السهر ليالي العشر.
· المنارة الثانية عشرة: عندما يصطفيك الله من بين خلقه لتعتكف في بيت من بيوته متفرغا لطاعته سبحانه فهذه منة كبرى تحتاج منك إلى شكر بقلبك ولسانك وجوارحك، قال ربنا الرزاق: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، فكثيرون هم الذين يمكثون العشر على شهواتهم وفي دنياهم، وكثيرون هم أيضا الذين ابتلاهم الله بعوائق تمنعهم الاعتكاف مع رغبتهم فيه، كمن منع بمرض، أو مصاب، أو حرب، بينما فرّغك سبحانه وأعانك.
· المنارة الثالثة عشرة: معرفة الاعتكاف نعمة، ومعرفته في الشباب نعمة أخرى، والقدرة عليه نعمة ثالثة، وحصوله نعمة رابعة، ومواصلته كامل العشر نعمة خامسة، والدخول إليه متفقها متبصرا نعمة سادسة، فتأمل.
· المنارة الرابعة عشرة: حتى تحقق نفعا أكبر من تعبدك ليكن لك مقصدان:
o الأول: الفوز بليلة القدر.
o والثاني: تربية نفسك على التعبد، لتستمر عليه بعد رمضان -بحول الله-.
وهذا ما يخفى على الكثير، فيكون ذهنه منصبا على الأول دون الثاني، وإذا استحضرت هذا هيأت نفسك لأن تكون علاقتك مع الله ربانية لا رمضانية.
· المنارة الخامسة عشرة: اكتب لنفسك برنامجا إيمانيا، وحاسب نفسك عليه كل يوم، ولا تجعل العبادة مفتوحة فإنك قلّ ما تنجز، وهكذا كان دأب السلف -رحمهم الله- المشارطة والمحاسبة، فالمشارطة هي التي يسميها المعاصرون بالتخطيط، والمحاسبة مراقبة النفس ومتابعتها.
· المنارة السادسة عشرة: نوّع في العبادات حتى لا تمل، واجمع بين العبادات البدنية والقلبية، وذلك لأن بعض المعتكفين يقصر نظره على ثلاث عبادات أو أربع فإذا تعبت نفسه ترك العبادة حتى تنشط، وهذا من القصور.
· المنارة السابعة عشرة: أنسب وقت للنوم بعد صلاة الفجر مباشرة وحتى قبيل الظهر بنصف ساعة، ثم تقوم تصلي الضحى والظهر، ثم تعود للنوم بعد الظهر بساعة أو نصف ساعة حتى العصر، وتستطيع في هذا الوقت قبل الظهر وبعده أن تقرأ ثلاثة أجزاء -بعون الله-، وأما التأخر في النوم صباحا فإنه يفسد عليك باقي يومك، إما بالنوم حتى المغرب أو بالتعب والكسل.
· المنارة الثامنة عشرة: احمد الله على ما فتح لك في العبادة، ولا تنشغل بمراقبة الناس وعيبهم -ولو في نفسك-، فإن من أعطاك قادر على أن يسلب منك، ثم إنك لا تعلم من الذي قبل الله منه، كما أن لكل أحد طاقة وقدرة، فلا تقس الآخرين على نفسك، وإذا دخل عليك العجب بعد العمل الصالح أو خفت من الرياء فاستعذ بالله قائلا: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
· المنارة التاسعة عشرة: احتسب نومك، وأكلك، وقضاء حاجتك، واغتسالك، وترويحك عن نفسك، كمعينات على العبادة حتى تؤجر عليها.
· المنارة العشرون: إذا رأيت من فتح الله عليهم في التعبد فلا تعد على نفسك بالاحتقار المؤدي إلى الفتور، وإنما:
o اعرف حقيقة نفسك ومستواك العبادي.
o واعلم أن ما رأيته عند هؤلاء إنما هو بفضل الله ثم بتربية أنفسهم على العبادة زمنا طويلا.
o ثم ابذل أعلى ما تستطيع عليه من العبادة، وتذكر أن لديك من القدرات أكبر مما تتصور، والذي جعلنا ضعافا في العبادة هو ربط أنفسنا بالمستويات الضعيفة، وهذا التوجيه وسط بين الفتور والمشقة.
o ثم اعقد العزم على استمرارية العبادة بعد رمضان، والانشغال بتزكية نفسك طيلة العام لتصل إلى ما وصلوا إليه.
· المنارة الحادية والعشرون: العبادة الجماعية أسهل من الفردية، ومن صور اغتنامها: أن تدرب نفسك على الثانية في وقت الأولى، حتى إذا غاب الناس استطعت التعبد بمفردك، ويعينك على هذا بعد عون الله أن تسأل نفسك باستمرار: ما هي الثمرات التي سأخرج بها من الاعتكاف إلى تعبدي الخاص؟ فتستفيد من القيام العام لتقوي قيامك الخاص، وتستفيد من القراءة الجماعية لترسخ قراءتك الفردية.
· المنارة الثانية والعشرون: اصطحب معك تفسيرا للقرآن -وأرشح لك المختصر في تفسير القرآن الكريم-، وذلك لأمرين:
o أحدهما: الرجوع إليه لفهم الآيات المشكلة والكلمات الغريبة.
o والآخر: لقراءة القرآن عند صعوبة الوضوء، لاسيما في الشتاء أو من كان مريضا تتعبه كثرة الوضوء، فيجوز للمحدث -حدثا أصغر أو أكبر- أن يمس كتب التفسير، في قول جمهور الفقهاء، إلا أن منهم من قيد ذلك بكون ما فيه من التفسير أكثر مما فيه من القرآن، ومنهم من لم يشترط ذلك، جاء في "الموسوعة الفقهية" (13/97): "يجوز عند جمهور الفقهاء للمحدث مس كتب التفسير وإن كان فيها آيات من القرآن وحملها والمطالعة فيها، وإن كان جنبا، قالوا: لأن المقصود من التفسير: معاني القرآن، لا تلاوته، فلا تجري عليه أحكام القرآن".
· المنارة الثالثة والعشرون: راجع أدعية الصلاة واحفظ ما لم تعرفه منها، حتى تدعو به في صلاتك خاصة مع طول الركوع والسجود، ولا تبقى على ذكر واحد فتمل وتسرح.
· المنارة الرابعة والعشرون: إصلاح النفس وتربيتها على العبادة عملية مستمرة، فلا تيأس من الإخفاقات والكسل الذي يصيبك، واعلم أن الشيطان ود لو ظفر منك بهذه، والمجاهدة هي السبيل للوصول إلى كل ما تتمنى، ومن ذلك العبادة والترقي فيها، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
· المنارة الخامسة والعشرون: الإسلام دين الوسطية، والتوسط معين على العبادة، فتوسط في بذل الجهد بين من لا يتعب أصلا، وبين من يتعب تعبا فوق طاقته يعود عليه بالضرر، وتوسط بين من لا يأكل شيئا ومن يأكل حتى يتخم!، وتوسط بين من يرتاح كل وقته ومن لا يرتاح مطلقا، وتوسط بين من ينام كما ينام في بيته ومن يضيّق على جسده النوم حتى تثقل عليه العبادة.
· المنارة السادسة والعشرون: خذ معك كتابا في الأدعية، حتى تحفظ منه ما تيسر أو تقرأ منه، فإن مقامات الدعاء كثيرة، والأدعية التي نحفظها قليلة، وأرشح لك كتاب: "الدعاء ويليه العلاج بالرقى من الكتاب والسنة" للشيخ سعيد بن وهف -رحمه الله-، أو كتاب: "الجامع في أدعية الكتاب والسنة" للشيخ عبد اللطيف التويجري.
· المنارة السابعة والعشرون: الإنسان مدني بطبعه، يحب العلاقاتِ ويأنس بالناس، وقد يكون الانقطاع عن الخلق صعبا عليك بادئ الأمر، لكن يتدرج في التخفف من التواصل بالخلق حتى يحقق الاعتكاف الكامل، وهذا التدرج على مستوى الليالي فكل ليلة أقل من التي قبلها، وعلى مستوى السنوات فكل اعتكاف أقل من الذي قبله.
· المنارة الثامنة والعشرون: قد لا ترى المتعبدين مجتمعين مجتهدين كما تراهم في الاعتكاف، فأطل النظر فيهم لتشبع عينيك من هذه المناظر الشريفة، فإنها ستبقى صورا محفوظة تحفزك على الطاعة كلما تذكرتها، ويناسب أن يكون هذا النظر وقت تعبك، وتحتسبه معينا لك على الطاعة، فتكون خرجت من طاعة ودخلت في أخرى.
· المنارة التاسعة والعشرون: يستطيع المعتكف أن يقرأ عشرة أجزاء في اليوم بسهولة، وأصحاب الهمم خمسة عشر، وأما من فتح الله عليه فيختم كل يوم، ويستطيع أن يصلي في اليوم خمسين ركعة، وأن يذكر الله خمسة آلاف، ولذا شمّر عن ساعد الجد واعرف قدر الدقيقة.
· المنارة الثلاثون: إذا غلبت عليك الراحة في المعتكَف فاجعل أول المسجد للتعبد، ورابط على مكانك في الصف الأول، واشتغل بالتعبد أكبر وقت ممكن.
· المنارة الحادية والثلاثون: يتساهل بعض المعتكفين في التبكير إلى الصلاة اعتمادا على وجوده في المسجد، وقد لا يقوم إليها إلا بعد توجيه غيره، وهذا لا يليق به، بل ينبغي له أن يبكر، وأن يسارع إلى الصف الأول من نفسه، لأنه إن وجد من يحثه اليوم، فلن يجد من يحثه غدا، ونحن نريد أن نأخذ من رمضان إلى ما بعده لنحقق النفع الأعظم.
· المنارة الثانية والثلاثون: إذا اعتكفت مع مجموعة فاعلم أنك في تحد بين الاستمتاع مع إخوتك والتفرغ للعبادة، فاربط نفسك بأهداف يومية وألزم نفسك بالعزلة قدر المستطاع لإنجازها، واجعل جلوسك مع إخوتك مكافأة لنفسك، أو طريقة للترويح عند التعب، فالعبادة أصل والحديث استثناء.
· المنارة الثالثة والثلاثون: الرياء أخطر ما يواجه المعتكِف، بأن يعمل العبادة من أجل الناس، أو يتركها من أجلهم، وهكذا هي النية تحتاج لمجاهدة أكبر في العبادات الجماعية، فمحّص نيتك، وأخلص عملك، ولا تلتفت للناس ولو ذموك أو تنقصوا منك.
· المنارة الرابعة والثلاثون: نوصي المشتغل بالأعمال المتعدية في العشر الأواخر بوصيتين:
o الوصية الأولى: احتساب الأجر فيما يعمل والتأسي بالفاضلين في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
o الوصية الثانية: ألا يترك الأعمال القاصرة -وليست بقاصرة-، وإنما يجاهد نفسه على ما تيسر منها، فما لا يدرك كله لا يترك كله، وتجد بعض الفضلاء يستفرغ جهده كاملا للناس، فلا يتلذذ بصلاة، ولا قراءة، ولا ذكر، فيكون كالشمعة التي أحرقت نفسها من أجل الآخرين!
· المنارة الخامسة والثلاثون: وقت الاعتكاف كبير وقليل من يصبر على ملئه بالتعبد، ولذا من النافع أن يُدرس كتاب إيماني أو يقرأ في كل يوم من العشر، والوقت المناسب لذلك العصر أو بين القيامين بما لا يتجاوز النصف ساعة، فإذا وُجد طالب علم فيُطلب منه أن يحضّر عشرة مجالس ويلقيها، ولا يمنعه ضعفه التعبدي من الحديث في الإيمان والترقي فيه، فإن اعتذاره وتمنعه وإن كان تواضعا من جهة إلا أنه من طرائق الشيطان من جهة أخرى، لأنه يصرف عن قراءة الكتب الإيمانية وتدريسها والتي تنفع الملقي والمتلقي، وإن غاب طلاب العلم فيأخذ المعتكِف معه كتابا ويقرأه لوحده أو مع صاحبه، شريطة أن تكون هذه المجالس إيمانية لا علمية، في الأسماء الحسنى أو أعمال القلوب أو غيرها مما يزيد الإيمان ويفتح للمعتكف أبواب التعبد، وذلك لأننا نريد أن نجمع بين فقه التعبد وممارسته.
· المنارة السادسة والثلاثون: الاعتكاف رتب:
o أقلهــــــــــــــا: حفظ النفس في الواجبات والمحرمات -وليس بقليل-.
o وأوسطها: الاستمرار على نفس المستوى العبادي قبل الاعتكاف.
o وأعــــلاها: الاجتهاد لأعلى درجة يستطيعها المتعبد.
وكلها خير وطاعة، ومن الخطأ حصر ثمرة الاعتكاف في الدرجة العالية.
· المنارة السابعة والثلاثون: وجود الصغار في المسجد يُبهج النفس، ويفتح فرصة لتربيتهم وتعليق قلوبهم بالمسجد والعبادة، فيلاطَفون، ويحفّزَون، ويوجّهَون، ويعفى عن أخطائهم لا سيما إن كانوا معتكفين، ومن المقترحات النافعة أيضا: إقامة درس يومي لهم بين التراويح والقيام فيما يناسبهم بأسلوب مبسّط، ففيه تربية لهم، وإعانة على إشغال بعض أوقاتهم بالعبادة، وإكسابهم ما يحتاجون من العلم.
· المنارة الثامنة والثلاثون: يجد المعتكف فرصة لتربية نفسه على بعض العبادات كالوضوء الدائم، والسلام، والابتسامة، فلا يفوّت هذا.
· المنارة التاسعة والثلاثون: اصبر بداية الاعتكاف حتى ينتظم نومك وتألف نفسك، لأن النفس عادة لا تألف التغيير من أوله.
· المنارة الأربعون: انتق من آيات التراويح ما أثر منها في قلبك، ودونها مع تفسيرها في كناشتك، ثم تدارسها مع إخوانك، فإنك بذلك تربي نفسك وإخوانك بالقرآن.
· المنارة الحادية والأربعون: يتساءل البعض فيقول: بم أدعو في صلاتي؟ والجواب: أمامك ثلاثة أنواع من الأدعية:
o الأول: الدعاء العام، وهو نوعان: أدعية الكتاب والسنة، وأدعيتك الخاصة.
o الثاني: أدعية الصلاة، كأدعية الركوع، والسجود، والجلوس بين السجدتين.
o الثالث: الدعاء المستحب في العشر الأواخر: "اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ، تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".
فاجمع بين الثلاثة حفظاً ودعاءً، واسبقها بثناء على الله سبحانه، فإن الله يحب الثناء سبحانه.
· المنارة الثانية والأربعون: الليالي الزوجية ومنها ليلة الثلاثين اختبار لهمة العبد، فمن كسل فيها فكسله بعد رمضان من باب أولى.
· المنارة الثالثة والأربعون: كلنا ذاك الرجل الذي يضعف وينسى حتى في الليالي الفاضلة، فليكن من الأخلاق التي نتعاون عليها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، عملا بسورة العصر.
· المنارة الرابعة والأربعون: يشعر المعتكف بصفاء روحه، ورقة قلبه، وإقبال نفسه، وهذه من آثار التفرغ للعبادة، وهي تلفت أنظارنا إلى أمر مهم، وهو: أن آثار الطاعة ينالها من أعطى العبادة حقها من الوقت، أما العبادة السريعة فلا تُشبع الروح ولا تُصلح القلب.
· المنارة الخامسة والأربعون: من أولى الأولويات تربية المعتكف نفسه على ترك الجوال أكبر وقت ممكن، فإنه يقع في المخالطة الافتراضية وإن سلم من المخالطة الواقعية، التي هي أشد من أختها لما يمر به من صور ومنكرات، ويدخل في شأن الجوال: ترك متابعة الأخبار ومعرفة المستجدات حتى يتفرّغ المتعبد لما اعتكف من أجله، ويرتاح من الآلام النفسية.
· المنارة السادسة والأربعون: الاعتكاف المصحوب بخطة وبرنامج أكثر أثرا من الاعتكاف المفتوح، وذلك لأنه ليس كل الناس يقدر على إدارة وقته ونفسه، والمُأمّل من القائمين على برامج الاعتكاف ترتيب برنامج للمعتكفين، ومن معالم هذا البرنامج:
o حصر المعتكفين بعدد معين، واختيار أفضل المسجلين.
o أن تكون الأولوية في الاعتكاف لمن أراد اعتكاف العشر كاملة.
o جعل المعتكَف خاصا بالمعتكفين لا مفتوحا لكل أحد.
o الاستيقاظ قبل الفرض بربع ساعة، وتواجد الجميع في الصف الأول مع الأذان.
o إقامة درس إيماني يومي.
o عدم الخروج من المسجد إلا لضرورة وباستئذان.
o إقامة مسابقة في حفظ الأدعية، وذلك بأن يحفظ المعتكف كل يوم ثلاثة أدعية ويُسمّعها.
o وإن تيسر متابعة المعتكفين إيمانيا في الجملة، أو بعضا منهم وترتيب برنامج إيماني فخير كبير.
· المنارة السابعة والأربعون: إذا خلا المعتكف بنفسه وربه حصل له من التأملات في نفسه وعبادته شيء كثير، تدوين هذه التأملات والعمل بها بعد الاعتكاف من أسباب ارتقائه.
· المنارة الثامنة والأربعون: زد عنايتك بيوم الجمعة خصوصا، وذلك بالنوم مباشرة بعد الفجر، والاغتسال في وقت لا يزدحم فيه المعتكفون، مع الاستيقاظ مبكرا للجمعة لقراءة سورة الكهف، والإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وحضور الخطبة، مع العناية بالدعاء هذا اليوم الذي تجتمع فيه فضيلتا الجمعة والصيام.
· المنارة التاسعة والأربعون: طالب العلم قدوة للناس، فالأعين تنظر إليك، ومن حولك يقتدون بك شئت أم أبيت، ونحن لا نريد منك أن ترائي بالعبادات من أجل ثناء الناس ورضاهم عنك، ولا نريدك في المقابل أن تستسلم لضعفك ولا تبالي بمكانتك، بل الصواب أن تغتنم الاعتكاف ليكون فرصة لتربية نفسك على العبادة، حتى ولو لم تكن من أهلها قبله، وتجاهد نفسك على أعلى ما تستطيع، مع العناية البالغة بصرف ذلك لوجه الله سبحانه.
· المنارة الخمسون: اقرأ آخر يوم في رمضان كتيبا في أحكام العيد، وأقترح عليك "ملخص أحكام عيد وزكاة الفطر" للدرر السنية.
· المنارة الحادية والخمسون: من النافع لضبط جدول نومك ألا تنام ظهر التاسع والعشرين حتى تستطيع النوم في الليل، فإن كانت ليلة الثلاثين نمت جزءا منها، وإن كانت ليلة العيد نمتها حتى الفجر.
· المنارة الثانية والخمسون: اكتب في اليوم التاسع والعشرين خطتك العبادية لشهر شوال والتي ستبدأ في تطبيقها من ليلة العيد، وتذكر أن أهم ما يعينك عليها الاستعانة بالله ثم مجاهدة النفس.
· المنارة الثالثة والخمسون: مبارك عليك، خرج رمضان وغدا العيد، تقبل الله منا ومنك صالح الأعمال، واعلم أن مجاهدتك لنفسك بدأت الآن، في إقامة العبادة الفردية والمرابطة عليها في خضم هموم الحياة وأشغالها.
· المنارة الرابعة والخمسون: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إذا أتم الله عليك النعمة فبلغت تمام الشهر، فأكثر من شكر الله وتكبيره.
· المنارة الخامسة والخمسون: احرص على صلاة العشاء ليلة العيد، فإن التفريط فيها كبير لا سيما مع اختلاف المساجد في الأذان والإقامة، ثم صل وردك من الليل في المسجد والبيت، حتى إذا فات أحدهما لم يفت الآخر، وتذكر أن هذه ليلة اختبار الاستمرارية والثبات -ثبتني الله وإياك-.
· المنارة السادسة والخمسون: عندما ترى زوال المعتكَف وتودع إخوانك المعتكفين تذكر حقيقة الدنيا وأنها محطات يمر عليها العبد مرورا سريعا حتى يوافيه الأجل، وهذا يدفعه للاستعداد للموت.
· المنارة السابعة والخمسون: اجعل هذه المنارات قريبة منك، واقرأها عدة مرات قبل الاعتكاف وأثناءه، لأن الحاجة إلى ضوء المنارات لا يكون مرة واحدة، وإنما يستمر حتى تصل إلى بغيتك.
· المنارة الثامنة والخمسون: كتبت لك أخي المعتكف كناشة خاصة أسميتها "كناشة المعتكف" تعينك على حسن الاعتكاف، وقد وضعتها في مدونتي على الشبكة فحمّلها واستفد منها.([1])
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، اللهم افتح لنا باب التعبد فهما وعملا وثبتنا عليه حتى نلقاك.
خالد بن حامد القرني
تم بحمد الله الثالثة عصرا من يوم الجمعة
الرابع عشر من رمضان، لعام ستة وأربعين بعد الأربع مائة والألف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق