الأحد، 5 يناير 2025

لفتة (11) التربية عبر الهاتف

 

 [11]

التربية عبر الهاتف

الاثنين 29/6/1446هــ

عندما كنت أستضيف الآباء في المدرسة لمناقشتهم في مستويات أولادهم الدراسية والخُلقية، كان عدد منهم يعتذر بأن عمله يتطلب السفر الدائم ولذا فهو لا يستطيع على التربية، فكنت أسالهم: تأتي إلى بيتك كل كم؟ فيجيب البعض بأنه يأتي في كل أسبوع مرة، وبعضهم كل أسبوعين، وبعضهم كل ثلاثة، فأعقب بسؤال ثان: وما هي الجهود التي تبذلها أثناء وجودك؟ فيتفق الجميع على عدم فعل أي شيء لأولاده من ناحية المتابعة والتوجيه.

وأذكر من المواقف التي مرت علي موقفان مع عاملين حول أولادهما، فمرة طلب مني عامل المسجد أن آتي إلى غرفته، فأتيته وقد كان رجلا بساما لكني وجدته حزينا بل أظنه كان يبكي، وقال لي: عندي مشكلة كبيرة أريدك أن تحلها لي، ولدي دخل إلى سن المراهقة وبدأ يعصي أمه كثيرا، ويفعل كل ما يريد، وأصبحت زوجتي عاجزة عن السيطرة عليه، وكلما أكلمه لا يهتم لكلامي، لعلمه ببعدي عنه وأني لا يمكن أن آتيهم إلا بعد وقت طويل، فما الحل؟ شاركته الهم ثم قلت له: لا أعرف غير الدعاء ثم ودعته، أما الموقف الآخر فقد أتيت بعامل الفرش ليغير فرش بيتي، وأثناء عمله جاءه اتصال تكلم فيه طويلا ثم غضب وأغلق الاتصال، وقال لي: ولدي ليس حمارا بل أنا الحمار، فقلت له: خيرا إن شاء الله، فاشتكى لي مثل شكوى العامل الأول.

حول هذه المواقف أريد أن أعلق بالنقاط الآتية:

1-      أخطر قضية ينبغي أن يعتني بها الآباء الاقتناع بأهمية التربية وإثبات صدق ذلك بدفع ما تطلبه من ثمن، فمشكلة كثير من الآباء أنه يريد صلاح أولاده دون بذل أي جهد يذكر، وفي أحسن الأحوال تجده يبذل شيئا يسيرا لا يُذكر، ثم يشتكي من صعوبة التربية وكثرة المفسدات وفشو الانحراف! وكل ما يأتي من كلام في أفكار التربية، وطرقها، ومقترحاتها، ليس له أي قيمة عند غياب هذه النقطة، ولذا من لم يكن مقتنعا بأهمية التربية وضرورة بذل جهده فيها فليستعن بالله أولا ثم ليقرأ كثيرا في أهمية التربية ومسؤولية ذلك.

2-      الغياب عن الزوجة والأولاد نوعان: قصير وطويل، فالقصير بالأيام والأسابيع، والطويل بالسنوات، والذي أراه أن الغياب القصير معقول بشرط إحسان التعامل معه -وهو ما كتبت المقال لأجله-، أما الغياب الطويل فهذا هو البلاء العظيم، فإن إعفاف النفس والزوجة وتربية الأولاد أهم من السعي في طلب الرزق، فالرجل والمرأة بحاجة الفراش، والأولاد بحاجة التربية، وهذا الغياب الطويل من أسباب وقوع الأزواج في الفواحش، ومن أسباب فساد الأبناء، ومن المواقف المأثورة: ما جاء في مصنف عبد الرزاق: "أن عمر -رضي الله عنه- كان يطوف فسمع امرأة وهي تقول:

تطاول هذا الليل واخضل جانبه * وأرقنـــــي إذ لا خليـــــــل ألاعبه

فلولا حــــــــــــذار الله لا شيء مثله * لزعزع من هذا السرير جوانبه

فقال عمر: فما لك؟ قالت: أغربت زوجي منذ أربعة أشهر وقد اشتقت إليه، فقال: أردت سوءا، قالت: معاذ الله قال: فاملكي على نفسك فإنما هو البريد إليه، فبعث إليه ثم دخل على حفصة فقال: إني سائلك عن أمر قد أهمني فأفرجيه عنه كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها فاستحيت، فقال: فإن لله لا يستحيي من الحق، فأشارت ثلاثة أشهر وإلا فأربعة فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر".

وإذا كان هذا هو حال المرأة فكيف بالرجل؟!، وإذا كان هذا الحال لأشهر فكيف بسنوات؟!، وكيف يكون حال الأولاد واستقامتهم؟!

3-      مواقف الآباء معي تمثل الغياب القصير، ومواقف الإخوة الوافدين تمثل الغياب الطويل، وفي النقطة السابقة تحدثت عن خطأ الغياب الطويل وأثره، بقينا في الغياب القصير.

4-      إذا كان الأب مهتما بتربية أولاده ويدفع ثمن ذلك، واضطر للغياب القصير، فأوصيه بأمور:

o      اغتنام وقت وجودك في البيت، حتى يصبح وجودك قليلا لكنه مؤثر، فتعرف أحوال زوجتك وأولادك، أحوالهم العبادية، والدراسية، والخلقية، وتدخل في تفاصيل حياتهم وتعيش معهم فيها، أما أن يكون حضورك كغيابك فهذه المصيبة الكبرى.

o      العناية بالتربية عبر الهاتف، وذلك بالاتصال الدائم، ومتابعة الأبناء ومعرفة أحوالهم، ولن يكون لاتصالك قيمة إلا إذا كان لحضورك هيبة، فإذا كنت عند وجودك تقوم بدورك الكامل فإن اتصالك سيكون مهيبا وسيحقق لك الأبناء بعون الله ما تريد.

o      تذكر أن التواصل عبر الهاتف ليس كالحضور، وفيه صعوبة ستجدها، لكنك تصبر عليها لضرورة ظرفك، ولأن التربية هم لك.

o      ضرورة الاتفاق مع زوجتك على نظام لتربية الأبناء، وهذا لن يحصل إلا بعد وئام ومودة معها، أما إذا كانت العلاقة بينكما متوترة فإنها قد تسمح بتلاعب الأولاد في غيابك!

o      كن على حذر ووعي كامل بخطورة التعايش مع الغياب، فنحن أسلفنا بأن غيابك مؤقت ولضرورة، فإذا انتهت الضرورة عدت إلى الحضور الكامل مع أهلك، لأن المشكلة الواقعة عند جملة من الآباء أنه يتعرض لغياب مؤقت فيقصر مع زوجته وأولاده، ثم ينتهي عذره لكنه ألف الغياب وتعايش معه فيستمر عليه باقي حياته!!، ولو سألتني فقلت: كيف أسلم من إلف الغياب؟ فالجواب: بالقلق الدائم.

o      اصطحب زوجتك وأولادك للبلدة التي تسافر إليها، فإذا لم تستطع أن تقترب منهم فيقتربون منك.

o      تيقن بأنه لا يستطيع أحد أن يقوم بدورك مهما كان، فزوجتك يكفيها الدور الذي تقوم به، ولا تملك ما تملكه من الهيبة، وولدك الكبير ليس له سلطة على إخوانه ولا يمكن أن يربيهم بالنيابة عنك.

5-      إذاً تستطيع التربية عبر الهاتف إذا كنت مهتما بتربية أولادك، وكان انقطاعك قصيرا، وكان لحضورك أثر، ولن يكون لاتصالك قيمة إذا كان غيابك عن أولادك طويلا، أو لم يكن لحضورك أثر!

أختم بموقف حصل لي مع وافد مبارك، رجل صالح، وله ذرية طيبة يعيشون معه هنا في المملكة، سألته مرة عن عودته لبلده، فأجابني بجواب تعجب منه وأعجبت، قال لي: "هما خياران لا ثالث لهما، إما أن يعيش أولادي في بلدي حتى أجمع المال، وإما أن يعيشوا معي ولا أجمع المال، ولأن أولادي أهم عندي من المال فقد اخترت الخيار الثاني، حتى أربيهم بنفسي ويكونوا تحت نظري باستمرار، فكل ما أجمعه من المال هو لتكاليف المعيشة، ولا يبقى شيء للادخار، ولذا ليس عندي بيت في بلدي، لكنني مسرور بما أرى من قرب أبنائي وصلاحهم".

سؤال اللفتة: هل استشعرت وقوفك بين يدي الله وسؤالك عن تربية أولادك؟

اللهم أعنا على تربية أولادنا، وأقر أعيننا بصلاحهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...