الاثنين، 23 ديسمبر 2024

لفتة (6) حفظ الكتب

[6]

حفظ الكتب

الأحـــد 21/6/1446هــ

تشرفت ذات يوم بركوب أحد المشايخ معي لإيصاله لدورة علمية، ومن الأسئلة التي أحب أن أسألها لكل من لقيته خاصة من المشايخ وطلبة العلم: لو استقبلت من أمرك ما استدبرت ما هي الأمور التي ندمت عليها في حياتك؟، فسألت الشيخ هذا السؤال، فتنهد الشيخ وتألم، وقال: "لقد وقعت على الجرح، هناك أمر يؤلمني جدا كلما تذكرته لكن لا يمكن إصلاحــــــه -والله المستعان-"، فقلت: لعلك تخبرني به، قال: "اتركه"، قلت: أريد أن أستفيد، فأنا سألتك لأتعلم من أخطائك، قال: "أكثر نقطة تقلب مواجعي، وتزيد ألمي طريقة تحصيلي للعلم، فهناك طريقتان مشهورتان للتحصيل، كان المشايخ ينصحون بواحدة، وتركتها وذهبت للأخرى، لأنها الأسهل وندمت على ذلك ندما شديدا.

فالعلم في الجملة يحصل بطريقة الحفظ أو بطريقة القراءة، وكان كبار المشايخ ينصحوننا بالأولى، وذلك بأن نحفظ القرآن، والمتون العلمية، وشروحات المتون، وكنت أستصعب هذه الطريقة، ولم أتقن حتى حفظ القرآن، أما المتون وشروحاتها فكنت أكتفي بقراءتها، وأدركت اليوم البون الشاسع بين الطريقتين، فمن كان حافظا للمتون وشروحها، فهو قادر على شرح أي متن في أي وقت، وقادر على إجابة أسئلة الناس بلا تحضير، أما صاحب القراءة فذهنه خال إلا من بعض المعلومات العامة والكلية، ولا يستطيع أن يشرح أي متن إلا بالتحضير له، فأنا الآن عاجز عن شرح غالب المتون من ذهني، وأحتاج أن أحضّر قبل كل شرح، وإذا حضّرت متنا فإني أكثر من شرحه، لأنني إذا حضرت متنا آخر سأنسى الأول، وأنا أنبهر عندما أرى المشايخ الكبار يشرحون ما شاءوا من الكتاب بالساعات وليس في أيديهم كتبا، ويجيبون على أسئلة الناس في كل زمان ومكان، أما أنا فأحتاج أن أعود للكتب وأحضر جواب الأسئلة قبل النطق بها، فهذا أشد ما ندمت عليه في حياتي وأرجو أن تنتفع بهذه التجربة".

شعرت بالغبطة عندما أفادني الشيخ بهذه التجربة المباشرة الساخنة، وتذكرت أن غالب من سألتهم عن نداماتهم ذكروا ندمهم على التفريط في الحفظ زمن الشباب، لأنه قضية مركزية، وإذا فات في الشباب فلا يمكن تعويضه في الكبر!

وهذا المعنى كنت أتمنى أن أجده بشكل صريح عند أهل العلم، فأوقفني الله على نص نفيس لابن الجوزي -رحمه الله- إذ يقول: (ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفًا إلى الحفظ والإعادة؛ فلو صح صرف الزمان إلى ذلك، كان الأولى، غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع، ولما كانت القوى تكل، فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين: فيكون الحفظ في طرفي النهار، وطرفي الليل، ويوزع بالباقي بين عمل بالنسخ، والمطالعة، وبين راحة للبدن، وأخذ لحظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء: فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه، أثر الغبن، وبان أثره، وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخلف عليها، فليحذر الراكب من إهمال الناقة، ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد، ومن انحراف عن الجادة، طالت طريقه، ومن طوى منازل في منزل، أوشك أن يفوته ما جد لأجله على أن الإنسان إلى التحريض أحوج؛ لأن الفتور ألصق به من الجد).

-وهذا النص يحتاج إلى تعليق لعله يتيسر في مقام آخر-، ومن المواقف في هذا الباب أنني انضممت إلى مجموعة علمية وكان أصحابها يرون التحصيل بطريقة القراءة ويزّهدون في حفظ المتون فضلا عن حفظ الشروحات، فطرح أحدهم مسألة وقال: لقد أتعبتني هذه المسألة ولم أجد لها حلاً، وظل النقاش فيها من بعد العشاء وحتى الثانية عشرة، وأُكمل اليوم التالي، فلما قرأت المسألة تذكرت أنها مرت علي قريبا فرجعت إلى شرح كتاب التوحيد ونسخت جواب المسألة في خمسة أسطر، وفيه جواب السؤال واختصار كل النقاش الذي استمر لساعات، فتعجب صاحب السؤال من الجواب وقال: "من أين أتيت به؟" فقلت: من شرح كتاب التوحيد للشيخ فلان، فقال: "لا يمكن أن يكون هذا الجواب، فهذا الكلام عليه إيرادات!" وتكرر هذا الموقف مرة أخرى وكان جواب المسألة في شرح الأربعين النووية، ومن هذا نستفيد: أن من ترك الطريقة الصحيحة في التحصيل، يتوه في المسائل القريبة الموجودة في شروحات المتون الأساسية فضلا عن المسائل البعيدة والمشكلة، ثم هو لا يدرك أن العلم خلاصات مركزة، فصاحب السؤال لم يقتنع بالجواب الشافي المختصر، وإنما حاول أن يورد على الكلام إيرادات لأنه يظن أن العلم بالجدل الطويل!

المتون لها تركيبة خاصة فهي أصول العلوم، ومن حفظ الأصول استطاع أن يبني عليها مسائل العلم، وهي أولى ما يحفظ بعد الوحيين، ومن لم يحفظها بقي تائها حائرا عنده مجرد مسائل كلية، كما أن من حفظ شرحا من شروح هذه المتون حصّل في صدره مائتي مسألة أو ثلاث مائة أو أكثر، وهذا يجعله يقفز في العلم من جهة، ويبني بناء علميا متقنا، ويكون قادرا على الشرح والإجابة في أي زمان ومكان من جهة ثالثة.

من الفروقات التي لا يدركها من يقدم طريقة القراءة على طريقة الحفظ، أن الحفظ يكون راسخا في النفس، بينما الفهم حالة عابرة تزول بعد أيام، فإذا حفظت متنا في توحيد الألوهية بقي معك، وإذا فهمت هذا الباب وظللت تقرأ فيه شهرا، استطعت أن تتكلم فيه بالساعات كلام عجيبا، لكنك بعد أسبوعين تنسى نصف ما جمعت، ثم مع الأيام تنسى كل ما قرأته وجمعته في ذهنك إلا بضع معلومات! وهذا لتدرك أن العلم حفظ وفهم.

حفظ الكتب طريقة جليلة نعرفها ونمارسها في الدارسة النظامية لكننا لا نمارسها في العلم الشرعي فلم؟! ممن يؤكد على هذا ويوصي به أحمد سالم -صاحب كتاب السبل المرضية- وقد سئل يوما عن عدد الساعات التي كان يمكثها أيام التأصيل في المذاكرة فقال: أربع ساعات يوميا!، وهذا الطريقة وإن كانت صعبة في البداية والنفس تهرب منها، لكنها تسهل وتتيسر مع الأيام، ثم يجد الطالب ذوقها وثمرتها.

ولحظ الشروحات قواعد، منها:

·       أن التعامل معها أهون من التعامل مع المتن، فيمكنك حذف المكرر لكثرته، وترتيب بعض الكلام.

·       قد يكون الشارح معتمدا على نسخة من المتن غير التي حفظت، فاعتمد نسختك على الشرح اعتمادا ذهنيا، حتى لا تحفظ المتن مرتين بألفاظ مختلفة.

·       إذا تكلم الشارح عن نفسه فلا تنسب الكلام لك فتقول: وقد ألفت في هذا الموضوع كتاب كذا، وإنما انسبه للشيخ الشارح.

·       لا تقل طيلة الشرح "وقال الشارح"، "وقال الشارح"، حتى لا تطيل الكلام ويمل.

سؤال اللفتة: ستحصّل العلم بأي الطريقتين؟

والله أعلى وأعلم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...