رحلة البيت العتيق
وحيٌ من الروحِ لا وحيٌ من القَلَـــمِ ... هز المشاعـــرَ من رأسِــــي إلى قدمِي
لما رأيتُ حجيــــجَ البيتِ يدفُعُهـــــــم ... شوقٌ إلى اللهِ من عُرْبٍ ومن عجمٍ
لبــــــــــوا النداءَ فمـــــا قَرَتْ رواحِلُهم ... حتى أناخـــــوا قبيلَ الصبحِ بالحـــــرمِ
لبيــــــــك اللهم يا رباً نلـــــــــــوذُ بـــــــــــــه ... سجــــــعَ الحناجــرِ تحدُوها بلا سَئَــــمِ
لما رأو البيــــــــتَ حقًـــــا قال قائلُــــهم ... مَزَجْتُ دمعًا جَرَى من مُقلــتِي بدمِ
وصَفقـــــــــــتْ من أريجِ الفـرحِ أفئدةٌ ... كما تراقـــــــص جَـــــذْلانُ من النَغــــــمِ
ســــرى إلى الـــــــروحِ روحانِيــــــةٌ عبـــقَا ... فزال عنهـــــم سواد الهــــــم والسقــــم
في ساحةِ البيتِ والأبصارُ شاخصةٌ ... كأنما هـــــــي أطيــــــــــــافٌ من الحُلُــــــــمِ
والطائفـــــون كأمـــــواجِ البِحَارِ وهــــم ... ما بين باكـــــيٍ على ذنبٍ ومبتــــسمِ
الله أكبر كــــــم مُدتْ هنـــــــــاك يـــــــــــدٌ ... وكم علــــــيها أريقتْ أدْمُـــــعُ النــــدمِ
وكـــــــــــــــم توســـــــــلَ محـــــــــرومٌ فبلغَـــــــــهُ ... ربُ الحجيــــــجِ أماني الروحِ والنَــعمِ
وكـــــــــــــــم تنفس مظلــــــــومٌ بحرقتــــــــــــــهِ ... وكم أُقيلَ عظـــــيمُ الذنبِ واللمــــــمِ
يسافر المسلم في عمره مرة واحدة إلى الحج، ولكن تلك الرحلة إذا قام بحقوقها وجد أثرها طيلة حياته، ومن أكرمه الله يسر له زيارة البيت أكثر من مرة، لكن السؤال المهم: هل نتقن أداء هذا الركن العظيم؟ وهل نجد أثر هذه الرحلة على قلوبنا؟ كثير من الناس يذهب إلى الحج بلا استعداد، رغم ما أنفق من مال كثير في هذه الرحلة، ورغم علمه بأنه قد لا يكررها مرة أخرى.. فيا للعجب!!
أخي الحاج رعاك الله: أنت تؤدي ركنا من أركان الإسلام، وتقوم بفرض فرضه الله عليك، ولذا ينبغي أن تبذل جهدك في أدائه على أكمل وجه، لا أن يكون همك مجرد إسقاط الفرض، وإذا كانت عنايتك ببعض المستحبات عظيمة فينبغي أن تكون عنايتك بالواجبات عموما وبأركان الإسلام خصوصا أعظم.
الحج عبادة مركبة، تحوي الكثير من التفاصيل فيها، وتؤدى في وقت قصير خمسة أيام لمن تعجل، أو ستة لمن تأخر، ولذا فالظن بأنك تستطيع إتقان هذه التفاصيل قبل الحج بيوم أو يومين وهم!، فضلا عمن يعتقد إتقان ذلك بعد ذهابه ووصوله!
والحقيقة أن الحج يحوي كما كبيرا من التفاصيل لا يمكن استيعابها وإتقانها في وقت وجيز، بل يحتاج الحاج أن يتفقه في الحج من وقت مبكر، ويتقن مسائله بالتدريج، ويجمع بين الأحكام الفقهية والمعاني الإيمانية، وعند أداء العبادة إذا لم تكن متقنا للأمرين فستظل محتارا كيف تفعل؟!، وجهلك بالمسائل الفقهية يحرمك المعاني القلبية.
ولتزداد الصورة عندك وضوحا قارن بين رمضان والحج، فرمضان ثلاثون يوما والعبادات فيه محدودة، بينما الحج ستة أيام والأعمال فيه كثيرة، ورمضان يتكرر علينا سنويا، بينما الحج يكون مرة أو مرتين في العمر، وإذا فرطت في أول رمضان فالفرصة أمامك مفتوحة فتستطيع التعويض منتصف الشهر أو آخره، بخلاف الحج فالوقت فيه قصير، والتفريط فيه يعني ضياعه وفوات اغتنام هذه الفرصة الجليلة!
إذا نخلص من هذا إلى ضرورة الاستعداد المبكر للحج، ووجود منهجية تعينك على تعلم ما تحتاج إليه، وأن هذا لا يتم لك في أيام معدودة، بقي أن يقال: أن هذا الاستعداد إذا كان قبل رمضان فأنت ستغتنم موسمين، وإذا كان بعده فستغتنم موسما واحدا، فإذا بدأت الاستعداد -وهو أقل ما يكون- بعد رمضان فستأخذ شهرين من العمل حتى تذهب إلى الحج، بينما لو استعددت في شعبان فستأخذ أربعة أشهر، وستغتنم رمضان والحج، وسيكون فهمك للعبادات أعمق، وبناؤك الإيماني أقوى.
في هذا المقال سأرسم منهجية مقترحة لتأهيل الحاج، وهي كثيفة في جوانبها، غزيرة في مادتها، لكنها تهيؤك للرحلة العظيمة التي سترحلها، وكلامي موجه للحاج ليعتني بنفسه، وللدعاة والمشايخ الذي يعتنون بتأهيل الحجاج، ولحملات الحج حتى تؤهل من معها بإتقان.
يسعد القلب من رؤية الجهود الكبيرة التي يبذلها المشايخ في التأهيل لشهر رمضان، سواء في محاضرات العامة، أو دروس الخاصة، أو البرامج الإيمانية التي يعقدها بعض المشايخ من أول شهر شعبان، لكنك تجد أن هذا الجهد أقل فيما يتعلق بالحج، مع أن الحج يكون مرة واحدة والجهل به كبير، ونحن نحتاج إلى طرح فقهي وتربوي وإيماني للعامة والخاصة، وألا نكتفي بمجرد شرح كتاب الحج، بل ندرب الحجاج ونربيهم قبل الحج بأشهر، ومن صور الضعف أيضا ما يفعله بعض المشايخ من شرح كتاب الحج قبل بدايته بأربعة أيام أو خمسة! والسؤال: كيف للحاج أن يحضر هذه الدروس ويتقن ما فيها؟!
من الأفكار المقترحة أيضا: أن يتعاون الدعاة مع حملات الحج والعكس، فالدعاة يلقون دروسهم في المساجد ولا يدرون هل الحاضرون حجاجا أم لا؟ والحملات عندهم أعداد كبيرة تصل إلى الألف أحيانا لا يعرفون كيف يصلون إليهم ويؤهلونهم؟ فيأتي التعاون ليربط بين الطرفين وينفع الحجاج تربية وتفقيها.
* * *
منهجية تأهيل الحاج
للعبادة ظاهر، وباطن، ومقصد، فالظاهر هو الجانب الفقهي، والباطن هو الجانب الإيماني، والمقصد هو الجانب التربوي، وتأهيل الحاج يقوم على العناية به في هذه الثلاث نظريا وعمليا.
فتدرس أحكام الحج على أربع مستويات: (صورة الحج، ثم مجمل الحج، ثم مسائل الحج، ثم تفاصيل الحج)، ففي المرة الأولى تشرح له صورة الحج الأولية من خلال خمسة أشياء: (مكان الحج، وزمانه، وأنواعه، وأعماله، وصفته)، وهو شرح مبسط في ثلث ساعة، ثم يشرح مجمل الحج بذكر صفته وبعض من أحكامه على وجه الإجمال في ساعة واحدة، ثم تشرح رؤوس مسائل كتاب الحج كاملا في مجلسين أو ثلاثة، ثم يشرح كتاب كامل في الحج بذكر الفروع والنوازل وسائر التفاصيل، في عشرة مجالس، ومن الكتب المقترحة:
صـــــــــورة الحج |
رسالة خلاصة صفة الحج وأعمال أيامه للدرر السنية، مع ورقة صورة الحج لخالد القرني. |
مجمــــــــــل الحج |
رسالة صفة الحج، لابن عثيمين. |
مســائــل الحج |
كتاب الحج من الفقه الميسر، لنخبة من العلماء. |
تفاصيل الحج |
التحقيق والإيضاح لابن باز، أو شرح حديث جابر، أو ملخص فقه الحج والعمرة للدرر السنية. |
وجميعها مطبوع ومنشور، باستثناء ورقة "صورة الحج" فهي منشورة فقط على مدونة سنا الفكر، الجدير بالذكر أن يكون بين هذه الشروحات الأربع مدد زمنية كافية، وتكاليف عملية كتلخيص الدروس ومذاكرتها، وحفظ المهم من الأحكام، وإذا ضاق الوقت فلا مانع من ترك شرح المرحلة الرابعة لأنها تناسب طلاب العلم بالدرجة الأولى.
وأما في الجانب الإيماني فيكون هناك تأسيس إيماني عام، وتأسيس خاص بعبادة الحج، وكلا منهما يحوي جانبا نظريا وعمليا، ففي الفرع الإيماني العام يدرك الحاج أهمية الإيمان، وتأسيسه، وطريقة ذلك، ثم يدرب عمليا على تأسيس برنامجه الإيماني، وأما الفرع الإيماني الخاص فيدرس فضائل الحج ونواياه، وفضائل يوم عرفة، ثم يدرب على عبادة الدعاء، وهذا تقريب للفكرة:
نوع التأهيل |
الفرع الإيماني العام |
الفرع الإيماني الخاص |
نظـــــــــــريا |
محاضرة البناء الإيماني. |
رسالة "خواطر في استحضار نية التقرب إلى الله في أعمال الحج"، لمساعد السلمان. رسالة "التاج في بشائر المعتمر والحاج". رسالة "فضائل يوم عرفة"، لعبد الرزاق البدر. |
عمــــــــــليا |
تأسيس البرنامج الإيماني. |
حفظ كتاب الدعاء لابن وهف مع التدرب على عبادة الدعاء. |
تُلقى محاضرة في البناء الإيماني، ومن الكتب المفيدة في هذا: "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان" لابن سعدي، وفي إيمانيات الحج: رسالة "خواطر في استحضار نية التقرب إلى الله في أعمال الحج"، لمساعد السلمان، ورسالة "التاج في بشائر المعتمر والحاج"، ورسالة "فضائل يوم عرفة" للشيخ عبدالرزاق البدر.
وأما الجانب التربوي فيحوي أمران: أداء الحج، والانتفاع به، ففي الأداء يوصى الحاج بجملة من الوصايا العملية والتنبيهات الرئيسية، وفي الانتفاع بالحج يدرس كتاب "منافع الحج" للشيخ أحمد القاضي، مع عناية الحاج بكتابة خواطره ودروسه التي استفادها من الحج، وتقريبا لهذا الجانب:
أداء الحج |
الانتفاع بالحج |
محاضرة "ثلاثون وصية للحاج". |
كتاب "منافع الحج" للشيخ أحمد القاضي. |
*
* *
وأقصر مدة -في نظري- لدراسة هذا البرنامج شهرين كاملين، من الأول من شوال وحتى الثلاثين من ذو القعَدة، تحوي عشرة مجالس، في كل أسبوع مجلس واحد باستثناء الشرح الثالث للفقه فهو ثلاثة مجالس في ذلك الأسبوع، مع استمرار البرنامج العملي بشكل يومي، وهذه خطة مقترحة للبرنامج:
الأسبوع |
الجانب الفقهي |
الجانب الإيماني |
الجانب الصحي |
الأول |
مدخل يوضح فكرة البرنامج، وأهميته، وطريقته. |
||
* شرح الحج بإجمال (صورة الحج) من خلال "خلاصة صفة الحج وأعمال أيامه" للدرر السنية، مع ورقة "صورة الحج" لخالد القرني. * حفظ الخلاصة. |
* بداية تأسيس البرنامج الإيماني. * حفظ سبعة أدعية. * التدرب على الدعاء لمدة ثلاث دقائق. |
مشي ربع ساعة |
|
الثاني |
* مشاهدة محاضرة "صفة الحج وأحكامه" للشيخ عبد المحسن الزامل (سبع مرات). |
* شرح الفرع (الإيماني العام) من خلال محاضرة "البناء الإيماني". * إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة سبعة أدعية وحفظ سبعة. * التدرب على الدعاء لمدة خمس دقائق. |
* قراءة ملف "حج بصحة" لوزارة الصحة. * مشي نصف ساعة |
الثالث |
* دراسة الحج مرة ثانية (مجمل الحج) من خلال كتيب "صفة الحج" لابن عثيمين. * مذاكرة الكتيب مع شرحه. |
* إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة أربعة عشر دعاءً، وحفظ سبعة. * التدرب على الدعاء لمدة خمس دقائق. |
مشي نصف ساعة |
الرابع |
* مراجعة صورة الحج ومجمله. |
* توضيح (أداء الحج) في: "محاضرة ثلاثون وصية للحاج". * إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة واحد وعشرون دعاءً، وحفظ سبعة. * التدرب على الدعاء لمدة عشر دقائق. |
مشي ساعة إلا ربع |
الخامس |
* شرح الحج بشيء من التوسع (مسائل الحج) من خلال كتاب الحج من الفقه الميسر، لنخبة من العلماء. * ضبط الكتاب مع شرحه. |
* إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة ثمانية وعشرون دعاءً، وحفظ سبعة. * التدرب على الدعاء لمدة ربع ساعة. |
مشي ساعة كاملة |
السادس |
* مذاكرة كتاب الحج من الفقه الميسر وضبط مسائله. |
* بيان كيفية (الانتفاع بالحج) بالتعليق على رسالة "منافع الحج" للشيخ أحمد القاضي. * شرح الجانب (الإيماني الخاص) بالتعليق على رسالة "فضائل يوم عرفة" للشيخ عبدالرزاق البدر. * إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة خمسة وثلاثون دعاءً، وحفظ سبعة. * التدرب على الدعاء لمدة ثلث ساعة. |
مشي ساعة كاملة |
السابع |
* شرح الحج بتوسع (تفاصيل الحج) من كتاب "التحقيق والإيضاح" لابن باز. * ضبط الكتاب وشرحه. |
* تنمية الفرع (الإيماني الخاص) بجرد رسالتي: "خواطر في استحضار نية التقرب إلى الله في أعمال الحج"، لمساعد السلمان، و"التاج في بشائر المعتمر والحاج". * إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة اثنان وأربعون دعاءً، وحفظ ثمانية. * التدرب على الدعاء لمدة نصف ساعة. |
مشي ساعة وربع |
الثامن |
* مذاكرة كتاب التحقيق والإيضاح وضبطه. |
* إكمال البرنامج الإيماني. * مراجعة خمسون دعاءً. * التدرب على الدعاء لمدة نصف ساعة.
|
مشي ساعة وربع |
مراجعة مادة البرنامج وربطها ببعضها، والإجابة على أسئلة الحجاج. |
· تنبيهات الخطة:
o النقاط المكتوبة باللون الأسود العريض هي عناوين اللقاءات الأسبوعية، وما عداها فهي المهام التي ينفذها الحاج.
o أضفت الجانب الصحي لأنه معين على العبادة.
o الحجاج يختلفون في حرصهم ومدى تقبلهم، فبعضهم يريد حضور اللقاءات فقط، وبعضهم يريد أن ترسم له برنامجا وتربيه وتتابعه حتى يحقق الأهداف المرجوة، فافتح لكل شخص الطريق الذي يريده.
o اخترت عبادة الدعاة لكثرة مواطنها في الحج، ولأن التركيز على عبادة واحدة يعين على إتقانها، لكن من رام الزيادة فأنصحه بالذكر لكثرة مواطنه وعظيم فضله.
قد تسأل فتقول: إذا كنت سأبدأ في تأهيل نفسي من شعبان فما الذي أزيده على ما سبق؟
والجواب: هو نفس البرنامج لا زيادة عليه من ناحية الكم، لكن الزيادة في الوقت والجهد، وبهذا تكون الثمرة أكبر بإذن الله تعالى، فيكون فهمك للحج أعمق، وقدرتك على استيعاب تفاصيله أكثر، ومستواك الإيماني أجود، وتقربك من الله أفضل، ويتصل عندك الموسمان رمضان والحج، فتتحقق لك العبادة المستمرة التي هي غاية خلقنا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب}.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والله أعلم، اللهم ارزقنا حج بيتك هذا العام وكل عام.
تم بحمد الله التاسعة صباحا من يوم السبت
الرابع والعشرون من ذو القعدة لعام خمس وأربعين بعد الأربع مائة والألف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق