النهضة
اليومية
بسم الله الرحمن الرحيم
(لا تحدثني عن قدراتك الفائقة
وآمالك الكبرى وخططك المستقبلية، حدثني فقط عن إنجازك اليومي فهو برهان آمالك
وعنوان نهاياتك) [ارتياض العلوم ـ مشاري
الشثري]
كثيرون هم الذين يتمنون الإنجاز في حياتهم ويسعون إليه لكن يغيب عن
بالهم أن الإنجازات الكبيرة تتحقق من أشياء صغيرة يثبت الناجحون على فعلها، ومن
هنا جاءت فكرة هذا المقال فالنهضة الحياتية التي تسعى لها هي نتيجة لنهضتك
اليومية، فإذا اجتمع كم كبير من أيامك المليئة بالإنجاز حققت إنجازك الكبير الذي
تتمنى الوصول إليه، لكن السؤال كيف أضبط يومي؟ وكيف أغتنمه؟ وكيف أحقق النهضة
اليومية؟ هذا ما أسعى للإجابة عنه في الأسطر القادمة.
أمران أساسيان ينضبط بهما يومك: الأول: قيامك بالورد العبادي والثاني:
أخذ كفايتك من النوم، وإذا أخللت بأحدهما أو كليهما فتيقن أن يومك سيتعثر ويتخبط
ولن تنجز فيه شيئا، فالعبادة روح المسلم ومنطلق سعادته وسبب نشاطه وقوته، وتأمل في
قصة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ عندما أرادت من أبيها صلى الله عليه وسلم خادما ماذا
قال لها؟ (...ألا أُخبركما
بخيرٍ مما سألتماني قالا: بلى فقال: كلماتٍ علَّمنيهِنَّ جبريلُ عليهِ السلامُ
فقال: تُسبِّحانِ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ عشرًا وتحمدانِ عشرًا وتُكبِّرانِ عشرًا
وإذا آويتُما إلى فراشكما فسبِّحَا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبِّرَا
أربعًا وثلاثين قال : فواللهِ ما تركتهُنَّ منذُ علَّمنيهنَّ رسولُ اللهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: فقال لهُ ابنُ الكَوَّاءِ ولا ليلةَ صِفِّينَ فقال :
قاتلكمُ اللهُ يا أهلَ العراقِ نعم ولا ليلةَ صِفِّينَ). [مسند أحمد 2/149] ، وقال الضياء المقدسي: "أوصاني شيخي فقال: أكثر من
قراءة القرآن ولا تتركه، فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ، قال الضياء:
فرأيت ذلك وجربته كثيرًا، فكنت إذا قرأت كثيرًا تيسر لي من سماع الحديث وكتابته
الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي". [ذيل الطبقات لابن رجب ٣ /٢٠٥]، وأما ما يتعلق بالنوم فمعلوم أن الجسد لا ينطلق في أداء العمل بنشاط
حتى يكون قد أخذ حظه من النوم والراحة و"عدم ضبط النوم يضيع اليوم".
ومن التصورات الخاطئة عند البعض أنه يظن أن ترك الأوراد العبادية سبب
لاغتنام الوقت وحصول الإنجاز ولذا تجده يدخل متأخرا إلى المسجد ويخرج مبكرا، تاركا
قراءة القرآن والأذكار أو قائلا لها على سبيل السرعة بلا حضور قلب! وهذا كله من
وسوسة الشيطان وتلبيسه، وفي المقابل تجد من يقصر في النوم بحجة الإنجاز فيتأخر في
الذهاب إلى الفراش فيكون عاقبة ذلك تضييع الصلاة التي تعقب النوم أو التفريط في
الواجبات التي عليه كالتأخر عن الدوام أو القيام بأعمال الوالدين! ولو قام في
الوقت المحدد لقام وهو كسول غير مرتاح، والصواب أن يتوازن فيقدر وقت راحة جسده كما
يقدر الوقت الذي يعطيه للأهداف، ويعلم أن هذا الجسد يحتاج لإكرام لأنه الوسيلة إلى
تحقيق مراداته.
وتذكر يا صاحبي أن الذنوب من أعظم موانع النهضة الحياتية وقد فصل في
آثارها ابن القيم في الداء والدواء لكن الشاهد هنا أنه ذكر من آثار الذنوب: "قصر
العمر ومحق بركته"، فالمرء يرى آثار المعصية في محق بركة يومه نسأل الله أن
يعفو عنا ويغفر لنا.
النهضة مرتبطة بالبركة والبركة في الصباح، قال نبينا صلى الله عليه
وسلم: (اللَّهمَّ بارِكْ لأمَّتي في بُكورِها) [صحيح أبي داود 2606]، وأذكر أن أحد الأصدقاء اتصل بي ذات يوم يشكو عدم قدرته على الإنجاز
وتحقيق الأهداف نظرا لكثرة الأعمال والارتباطات فأوصيته بصباح عطلة الأسبوع، فقال
تقصد أن أشتغل في الصباح بالأهداف؟ قلت: نعم، قال: والنوم؟ قلت: يكفيك نوم الليل
كبقية أيام الأسبوع ولا مانع من قيلولة، فقال: عذرا كل شيء إلا نوم صباح عطلة
الأسبوع فإن لها مذاقا خاصا! قلت: فعلا مذاقها أعظم من مذاق الأهداف!
للصباح مزايا كطول الوقت ونشاط الشخص مع هدوء الحياة غالبا، ومن بدأ
في الإنجاز من بعد الظهر أو العصر لم يشعر بكبير نشاط مع عدم إنجازه لجميع ما يحدد
لنفسه، ومن لم يعتد على العمل الصباحي فهو بحاجة لمجاهدة نفسه، ومن تعود على
الصباح فترة ثم انقطع وأراد أن يعود فهو بحاجة للمجاهدة أيضا والحياة كلها قائمة
على المجاهدة.
في نهاية يومك حاسب نفسك على ما عملته في ذلك اليوم، واشكر الله على
ما فيه من خير واستغفر الله عن الذنب والتقصير وبناء على تلك المحاسبة قم بكتابة
جدول اليوم التالي، وإياك والاعتماد على الذاكرة في تحديد الأهداف اليومية فإن
الكتابة أقوى من الذاكرة وأجود في ترسيخ الأهداف وتوجيه الهمة إليها، ونصيحتي لا
تنطلق في يومك للعمل إلا وأهداف ذلك اليوم مكتوبة وواضحة تماما لأن النفس تنجز ما
هو مقرر لها.
هناك أمر جربته ووجدت له نفعا وهو جعل أوقات النشاط للأعمال الذهنية وأوقات
الخمول للأعمال الجسدية فمثلا بعد الفجر مباشرة يقضى في الحفظ أو الكتابة حتى يكل الذهن
ثم ينطلق بعد ذلك للأعمال الجسدية كإنجاز أعمال البيت أو الأعمال الحاسوبية.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم:(لا تحقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا) [صحيح ابن حبان 522]
هذا الحديث أصل من أصول النهضة اليومية وتطبيقاته كثيرة، أكتفي منها
بتطبيقين:
التطبيــق الأول: أن الأعمال الكبرى تتحقق بتجزئتها إلى أجزاء صغيرة
ينفذ كل جزء منها في يوم، وفكرة إنجاز الأعمال الكبيرة دفعة واحدة أو في وقت قصير
هي أفكار خيالية، ومن احتقر هذا المعروف لم يحقق النهضة اليومية فضلا عن النهضة
الحياتية.
التطبيق الثاني: إذا فات جزء من اليوم فلا يعني التفريط في باقيه،
فتجد بعضهم يقول: "إذا لم أبدأ بالإنجاز من بعد صلاة الفجر مباشرة فذلك اليوم
لا قيمة له" أو "إذا لم أبدأ في الإنجاز من يوم الأحد فسأنتظر الأحد
القادم!" وهذا كله مخالف للأصل السابق.
كثيرا ما نشتغل في
موضوع الإنجاز بتتبع الأسباب المادية والتفكير بها دون استشعار لأهمية الدعاء
والارتباط بالله في تحقيق رغباتنا وآمالنا {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. [البقرة: 186]
بما أننا نشير لعمل يومي فمن المهم أن نذكر ببعض الإشارات المهمة:
أولها: أن اغتنام الوقت وتحقيق الإنجاز يأتي بالتدرج فإذا كنت لأول مرة تبدأ في
التخطيط ووضع الأهداف فمن الطبيعي ألا تكون قادرا على اغتنام جميع اليوم بل ولا
نصفه حتى، فإذا تيسر لك اغتنام ساعة أو ساعتين فهذا إنجاز ثم مع الأيام إذا ألفت
نفسك سيزداد عدد الساعات المغتنمة حتى تصل في وقت متأخر إلى اغتنام الدقيقة
الواحدة كما هو حال القدوات الكبار.
ثاني الإشارات: من الطبيعي أن يكون اغتنام أيام الأسبوع متفاوتا عندك
فتجد ثلاثة أيام نهضت فيها بنسبة 90% ويومان بنسبة 60% ويوم بنسبة 20% ويومان لم
تستطيع أن تنهض فيهما لظروف مرت مثلا، ومن الطبيعي كذلك أن النفس إذا لم تكن قد
اعتادت الجد أن تنجز في أحد الأيام إنجازا كبيرا ثم تكسل بعده يومان أو ثلاثة من
إرهاق ذلك الإنجاز الضخم فلا تقسُ على نفسك يا صاحبي.
الإشارة الثالثة: ضرورة معرفة كيفية التعامل مع الفتور، فكل النفوس
تمر بنشاط وفتور لكن السؤال كيف أتعامل معه؟ والجواب: حدد لك حد أدنى لا تنزل عنه
مهما كانت الظروف، واليوم الذي تفتر فيه تقوم بالعمل في حده الأدنى ولا تنقطع عنه
واليوم الذي تنشط فيه تقوم بالعمل في حده الأعلى، وإياك ثم إياك والانقطاع فإنه
سبب من أسباب الفشل.
من أجمل الوصايا التي سمعتها من أحد إخواني أنه أوصانا فقال:
"إذا شرعت في عمل فلا تفكر في غيره حتى تنجزه" فهو ينبه إلى خطأ شائع
وصورته أن يكون عند الشخص مجموعة أعمال في يومه فيدخل في الأول فيتذكر الثاني
فيقطع الأول ويشتغل به، أو يشتغل بالعمل الأول وهو يفكر في العمل الثاني أو
الثالث، أو يعمل عملين في وقت واحد ولا يمكن الجمع بينهما فينتهي يومه وهو لم ينجز
أعماله أو أنجز كما بلا كيف، فعليك بالتركيز ثم التركيز ثم التركيز.
من الإشكالات التي نعاني منها نحن أبناء هذا الزمان: وجود أجهزة
الجوال بين أيدينا ولا شك أن لها فوائد وثمرات كبيرة لكن في المقابل لها سلبيات أيضا
وكثير من أوقاتنا تضيع عليها وفيها ولذا فمن أراد النهضة اليومية فهو بحاجة
لمجاهدة نفسه على تحديد وقت قصير لاستخدام الجوال والتفرغ بعد ذلك للأهداف اليومية،
وجعل استخدام الجوال كمتعة تقدم للنفس إذا أنجزت.
دون خلاصة ما حصل في يومك في سطرين فقط واكتب نسبة الإنجاز أو
الاغتنام لذلك اليوم، وهذه الكتابة ستنفعك كثيرا في دفعك للإنجاز ولملاحظة أمور
مهمة حول سيرك تحتاج لتعديل وإصلاح.
أخيرا.. من أسباب زيادة الإنجاز شكر الله تبارك وتعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} فاشكر الله على
كل ما يتحقق لك من إنجاز وما يستجد لك من نعم. [سورة إبراهيم، 7]
ماذا تنتظر بعد معرفتك لكيفية النهضة اليومية؟ انطلق واعمل بما عرفت
مستعينا بالله، متمنيا لك التوفيق والإنجاز وخدمة دينك.
تم بفضل الله في الثانية عشرة ظهرا
من يوم السبت 1441/11/06هــ
جزاك الله خيرا
ردحذفلافض فوك
حقيقة من أجمل ما قرأت بارك الله لك في وقتك وجهدك
اللهم آمين وإياك ♥️
حذف