[28]
معركة الجدية
الاثنين 16/10/1446هـــ
من أراد سلوك الجدية فلا بد أن يكون مستعدا للدخول في معركة لها ساحتان: الأولى داخل النفس، والثانية خارجها، فيجاهد نفسه على الثبات على الجد، والصبر على العوائق، ويجاهد الآخرين الذين يعترضون طريقه ويقاومهم، وحول هذه المعركة نورد ثلاثة أسئلة ونجيب عليها:
السؤال الأول: ما الذي فرّق الجادين عن غيرهم؟
السؤال الثاني: ما الوصية للجاد؟
السؤال الثالث: ما الوصية لغير الجاد؟
السؤال الأول: ما الذي فرّق الجادين عن غيرهم؟
هذا سؤال يدور في عقل الجاد وفي عقل غيره، فما الذي يجعل الجاد يبذل كل هذه الجهود؟، وفي أحيان عديدة يكون دون مقابل مادي أو معنوي من البشر؟!، والجواب: المعاني هي من فرّقت بينهما، فالمعاني التي يحملها الجاد هي التي تدفعه لما يقوم به، وغياب هذه المعاني الرفيعة هي التي أورثت غير الجاد الكسل والإهمال، فأعلى المعاني ما كان مرتبطا بالله والدار الآخرة، بأن ينطلق المرء في عمله مستحضرا أداء الأمانة، والقيام بحقوق المسلمين، والحذر من عقاب الله، وطلب ثوابه، ثم تأتي بعدها المعاني الدنيوية، كأهمية الجد في العمل، وألا يفتح المرء للناس بابا لذمه وغير ذلك.
وتجد جملة من المؤسسات عند تطوير موظفيها تركّز على التصرفات، فتكثر من الاجتماعات، وتكرر التوجيهات، وتعدد التحذيرات، بينما المشكلة في التصورات، فإذا أصلحت تصورات الموظف وأشبعته بالمعاني الرفيعة انطلق يعمل بجد وإتقان، ورأيتك منه أكثر مما تمنيت، وهكذا في تربية الأولاد فمن اشتغل بالتصورات وفق، ومن اشتغل بالتصرفات فقط تعب كثيرا ولم يصل إلى مراده.
السؤال الثاني: ما الوصية للجاد؟
أولا: استعن بالله سبحانه، فهو الذي يعينك، وهو الذي يفتح لك، وهو الذي يبصرك بالطريق، وهو الذي يثبتك عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ)، إذا أخذ الإنسان بالأسباب ولم يحصل له عون وتوفيق من الله تعالى لم يحصل مراده، فمجرد الأخذ بالأسباب لا يكفي، بل يحتاج إلى شيء وراءه، وهو توفيق الله وإعانته على حصول ذلك الشيء؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثانيا: طول الصبر، فطريق الجدية صعب، والسالكون له قليل، وما لم يكن المرء صبورا، لم يصل إلى مراده، فبالصبر تنال كل مراداتك، ويُنال الصبر بدعاء الله ورجائه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)، ويعينك على الصبر أن يكون لله، قال سبحانه: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.
ثالثا: الجرأة، فهي صفة أساسية لا يستغني عنها الجاد، وذلك لأنه سيقابل كثيرا ممن يستهزئون به، وينتقدونه، وجملة منهم أصحاب ألسنة طويلة، فإما أن يكون جريئا في الرد عليهم، وإما أن ينكسر ويضعف، ولا ينبغي للجاد إلا أن يكون قويا شجاعا ذا كلمة رفيعة، لا أن تغلبه النكات والكلمات الجارحة، بل يغلبهم بالجد أحيانا، وبالطرفة أحيانا أخرى.
والذي تقابلهم أصناف، منهم من تتجاهله، ومنهم من يحتاج إلى كلمتين أو ثلاثا، ومنهم من يحوجك إلى إلقامه حجرا كل يوم أو كل أسبوع! فجهّز أحجارك!
السؤال الثالث: ما الوصية لغير الجاد؟
أولا: إذا لم ينعم الله عليك بالجدية، فاسأله أن يرزقك إياها، فإنها من أعظم خيرات الدنيا الموصلة إلى خيرات الآخرة.
ثانيا: إذا لم يكن لك رغبة فيها فلا تشغل نفسك باعتراض الجادين وأذيتهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ)، وقال أيضا: (مَن ضارَّ أضرَّ اللهُ بهِ ومَن شاقَّ شاقَّ اللهُ علَيهِ)، فهذان الحديثان يكفيانك في عدم اعتراض الجاد وأذيته، فالإسلام الكامل يقتضي ألا تؤذي أخيك، وإن نويت أذيته بلسانك أو غيره فتذكر أن الله يضرك كما أضررته.
ثالثا: تذكر أن الأهداف الكبرى والغايات النبيلة تحتاج إلى جد وعمل لتنفيذها، ولا يمكن تحقيقها بكسل وعمل يسير، فالخطيب الذي يهدف لرفع الجهل عن جماعته، وله أهداف يريد تحقيقها في تعليمهم وإرشادهم لا بد أن تكون خطبته طويلة، ولا يصح لساذج أن يقول يمكن له أن يحقق كل ما يريد بخطبة الخمس دقائق! والمدرس الذي يريد تعليم طلابه والنهوض بهم لا بد أن يكون حازما باذلا ويكلفهم ما يتعبهم، ولا يصح لساذج أن يقول: يمكنه أن يعلمهم كل ما أراد بتساهل وعمل يسير!
سؤال اللفتة: هل أنت مستعد لخوض معركة الجدية والانتصار فيها؟
اللهم اهدنا وسددنا وأعنا على أنفسنا..