السبت، 18 يناير 2025

لفتة (15) مع زين العابدين

 

[15]

مع زين العابدين

السبت 18/7/1446هــ

قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: (كنا نُعلَم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلَم السورة من القرآن)، في هذه العبارة الذهبية عدد من القواعد التربوية أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم لها، وقبل الشروع في ذلك يحسن أن أقدم بمقدمتين:

          المقدمة الأولى: أهمية العناية بالأحوال التربوية، بيانا، ونشرا، ونقدا، واقتداءً، فمن ينظر إلى هذه العبارة نظرة سطحية يجد أنها عبارة عادية، فزين العابدين يخبر بما تعلمه في الصغر وحسب، ولذا تجدنا لا نتحدث عن الأحوال التي مررنا بها في صغرنا على سبيل الاهتمام التربوي، ونجد أنها من قبيل الكلام الذي يزجّى به الوقت، ولا يُصلح ذكره في المقامات الجادة، بينما الحقيقة خلاف ذلك، فذكر الأحوال التربوية في غاية الأهمية، لأنها سبيل لتحسين التربية وتقويمها، ولأن الأحوال منها النافع ومنها الضار، والأحوال النافعة لا تثبت زمانا طويلا، وإنما يتطرق إليها التغيير بسبب ظروف الحياة المختلفة، ودخول الشهوات والشبهات، وتطرق الجهل، وغيرها من الأسباب، فما هو بدهي عندك ولا يحتاج إلى ذكر أساسي عند غيرك ولو عرفه لتغيرت طريقته في تربية أولاده.

          المقدمة الثانية: ضرورة جمع المقولات التربوية عند السلف وتحليلها، فعظمة السلف لها أسباب، وتُعرف تلك الأسباب من خلال جمع مقولاتهم التربوية ثم تحليلها، وهو مشروع جليل يحتاج منا إلى جهد وبذل، وهذا المقال نموذج على ذلك.

إذا تأملنا في مقولة زين العابدين -رحمه الله- فإننا نخرج بخمس قواعد تربوية:

          القاعدة الأولى: أهمية تعليم الأبناء، فمن ضرورات التربية وجود مادة علمية تقدم للمتربي، فليست التربية مجرد توجيهات عامة، أو إكساب لبعض المهارات فحسب، بل قبل ذلك كله لا بد من إشباع المتربي بالعلم النافع، والتهوين من شأن العلم جر علينا ويلات كثيرة، وقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "الجهل شجرة تنبت منها كل الشرور"، فالجهل أشد من البطالة، والمخدرات، وصحبة السوء، والتفحيط، ومتابعة التافهين، بل هو السبب لكل ذلك.

وما يُعلم للمتربي على درجات في الأولوية، فقضية الاستخارة والتشهد في الصلاة -على سبيل المثال- أمران جليلان، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إياها كما يعلمهم السورة من القرآن:

o      قال جابر -رضي الله عنه-: (كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الأُمُورِ كُلِّهَا كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ).

o      وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كما يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ).

o      وقال ابن عباس أيضا: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يعلِّمنا هذا الدُّعاءَ كما يعلِّمنا السُّورةَ منَ القرآنِ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من عذابِ جَهنَّمَ وأعوذُ بِكَ من عذابِ القبرِ وأعوذُ بِكَ من فتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ وأعوذُ بِكَ من فِتنةِ المحيا والمماتِ).

تأمل في هذا وأهميته وقارنه بحرص بعض الآباء على إتقان ولده للرياضيات واللغة الإنلجيزية؟! بينما هو جاهل بتشهد الصلاة ودعاء الاستخارة! ومن هذا تفهم أهمية الأولويات العلمية.

          القاعدة الثانية: عِظَم العناية بالقرآن في التربية، فهو منهج التربية الأول، وعليه تربى الصحابة -رضوان الله عليهم- فأفلحوا، فالقرآن هو أول ما ينبغي أن يزرع في قلوب أولادنا، وشرط ذلك تعليمه لا مجرد تحفيظه، وتأمل عندما قال: "كما نعلم السورة"، فالقضية ليست مقتصرة على الحفظ مع أهميته بل هي ممتدة للتعليم بعموم، والتعليم معنى أوسع وأشمل، فالحفظ يكون للألفاظ، أما التعليم فيدخل فيه التفسير، والتدبر، والعمل، وهذا هو الذي يربي أبناءنا وينفعهم، أما الاكتفاء بالحفظ فإنه قصور، ولا يوصلنا إلى المراد، وانظر فيمن اقتصروا على مجرد الحفظ لتعرف.

          القاعدة الثالثة: العناية بتعليم السيرة النبوية، قال الله عز وجل: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} قال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أشرف الخلق، وأعلاهم، وأفضلهم، وأحسنهم، ومن أراد الاقتداء فإنه يقتدي به -عليه الصلاة والسلام- أولا، وطريق ذلك دراسة السيرة النبوية، وهذه السيرة جاذبة للقلوب خاصة قلوب الصغار، لأنها عبارة عن قصص ومن لا يحب القصص؟، ثم إنها تحوي سيرا في سيرة، فهي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها سير الصحابة الكرام، ومن مزاياها: أنها شارحة للقرآن مبينة له، وكذلك: أنها طريق إلى الثبات على دين الله، وكذلك: أنها سيرة بشرية ممكنة التطبيق بخلاف كثير من السير، إلى غير ذلك من المزايا.

          القاعدة الرابعة: أول شروط المربي إتقان ما تيسر من القرآن -وأقله: المفصل- والسيرة النبوية، وذلك لأنها الزاد الذي يربي به، فمن لم يكن متقنا آيات الكتاب الحكيم فما هي المعاني التي يريد أن يغرسها في أولاده وطلابه؟ وكيف سيؤسس لهم فهم الدنيا والآخرة؟ وعلى أين منهج سيسير؟ ومن لم يكن متقنا لسيرة خير البشر كيف يدلهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه ولا يقتدي به؟ ولأي القدوات سيحمل طلابه؟

          القاعدة الخامسة: ضرورة انتشار دروس السيرة النبوية بطريقة منهجية، تُدرّس فيها السيرة كاملة على مستويات، مبتدئ، ومتوسط، ومتقدم، وتكون على أنواع متعددة، وعند التأمل في الواقع نجد ضعفا شديدا في دروس السيرة، فالمتوفر منها قليل، وغالبه للعامة، ويندر فيها الختم! -وهذا عجيب والله-، فكيف نريد الخير والرقي ونحن لا نعطي السيرة حقها من التدريس سواء للعامة أو طلاب العلم؟!!، في المقابل فإن التأليف في السيرة حصل فيه خير كبير -ولله الحمد- ومن أراد إتقان السيرة فيمكنه أن يجمع بين القراءة والانتفاع بالدروس المتوافرة في اليوتيوب للمتخصصين المتقنين لا دروس عامة الناس والدعاة.

أخيرا يا صاحبي: إنك عندما تتأمل تجد أن عبارة زين العابدين -رحمه الله- تطبيق عملي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه)، فتعليم الكتاب والسنة عاصم من الضلالة للصغير والكبير، واقتصارنا تعليمهما على الكبار خطأ بيّن، فالسؤال الكبير الذي يسأله كثير من الآباء: كثرت الفتن وأنا خائف على أولادي من الانحراف فما الحل؟ جوابه في هذا الحديث العظيم.

سؤال اللفتة: متى ستبدأ في تطبيق القواعد الثلاث في تربية أولادك؟

اللهم فقهنا في دينك..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...