ومضى عام دراسي
بعد نهاية عام كامل -بحمد الله وتوفيقه- من التعليم والتربية والعطاء يحق لنا أن نقف جميعا -معلمين وطلابا وأولياء أمور-وقفة تأمل في هذا العام الدراسي وما حصل فيه، فقد ذهب عام من أعمارنا، بُذلت فيه جهود، وحصلت فيه مواقف، والموفق من استخرج من ذلك الدروس والعبر، ولكل شخص دروسه الخاصة، لكني أحببت أن أدون ما ظهر لي من دروس وأنشرها طلبا للفائدة:
1- لا يذوق فرحة الختم والتخرج إلا من تعب -وهذه سنة حياتية عامة-، فالمعلم المقصّر لا يجد لانتهاء العام لذة ولا أنسا، والطالب الكسول الذي قضى جل العام في النوم واللعب لا يذوق اللذة التي يذوقها الطالب المجد، وهي لذة داخلية في النفس، أعظم من الحفلات، والشهادات، والجوائز، وما نراه اليوم من كثرة حفلات التخرج يحمل دلالة على فقد هذه اللذة الداخلية، لا سيما مع إدراكنا أن كثيرا منهم ليس من أهلها.
2- لا يجازي المعلمين على جهودهم الجبارة إلا الله تبارك وتعالى -وهذه قضية عظيمة-، فالمعلم يعمل في البنية التحتية للمجتمع، فهو المؤسس لأصحاب المهن، وغارس الفضائل في الأجيال، ولكن عمله خفي وأثره ظاهر، وإذا استحضر المعلم قضية الإخلاص، وغرسها في نفسه، وكررها مرة بعد مرة، لم يأسف على ما يجد من احتقار، واستهزاء، وتجاهل، فكل المواقف الأليمة التي تمر به تذكره بالغاية العظمى وهي رضوان الله تعالى وابتغاء جزائه، وإذا لم يكن مخلصا لربه انقطع عن البذل، وأصبح اسما لا معنى له، ورجلا لا وزن له، يجر أقدامه جرا للمدرسة، من أجل مرتب آخر الشهر.
3- قدرات طلابنا أكبر من توقعاتنا، ومن أكثر ما يفسد العلم والتربية "الرحمة المزعومة"، التي يحرم فيها المعلم وولي الأمر ابنه من علم وتربية ومهارة شفقة عليه من التعب، وظنا بأنه يمكن إدراك ذلك بالراحة، والحقيقة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وعند الممارسة العملية نجد أن طلابنا يملكون قدرات كبيرة في الحفظ، والفهم، والقراءة، والتحصيل، والمهارات، والمواهب، لكننا نقتلها بحرمانهم الجدية، وإبقائهم على الألعاب والتفاهات، ولن تعرف قدرات طلابك وأبنائك حتى تصل بهم إلى أمور يعجزون عنها، فتدرك أن ما سبق في قدراتهم، وكثيرا ما نردد قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} مستدلين بها على الأمور التي خارج وسعنا، لكننا نغفل عن مفهوم المخالفة وهو أن الله يكلفنا بما في وسعنا، فهل عرفناه؟ وبذلناه؟ ووالله إنه لسؤال كبير والتفريط فيه كثير.
4- من الظلم للأجيال أن تُغرف لهم الدرجات، وتعطى لهم المستويات بغير استحقاق، فإن ذلك تربية لهم على الضعف والكسل، ومساواة للمجتهد بالمفرط، وخيانة للأمانة، وإيهام في المستويات والحقائق، أما المعلم الجاد فهو وإن آلمنا حزمه لكنه يوقف أبناءنا أمام مستوياتهم الحقيقية، ويعينهم على نفض غبار الراحة والكسل، ويقوم بالأمانة التي تبرئ ذمته، ويرقي نفسه وطلابه بالعلم والتربية.
5- علاقة المعلم بطلابه وزملائه مؤقتة، فكثير منها لا يتجاوز السنة، وأنت في هذه السنة إما أن تغرس غرسا يسرك أو يسوؤك، فهؤلاء الطلاب الذين يجلسون بين يديك لن تراهم بعد عام من الآن، وسيكونون مجرد ذكرى عابرة في الأذهان، يبقى منها الحسن الخالص والسوء الخالص، ويُنسى ما بين ذلك، وكذلك علاقة المعلم بزملائه تأخذ بها الظروف يمنة ويسرة، فيتفرقون بعد أن جمعتهم مدرسة واحدة وسفرة واحدة، فلكل بداية نهاية، ومن استحضر النهاية في البداية أحسن العمل.
6- يشيخ الجسد لكن الروح لا تشيخ، يدّعي بعض المعلمين أن النشاط صفة ملازمة للسنوات الأولى فحسب، لكن سنة الحياة أن المرء إذا تقدم في عمره تعب وأصبح يقدم الفتات، والحقيقة خلاف ذلك، فحماس المعلم ونشاطه ليست مرتبطا بسنوات عمره أو خدمته، وإنما بالهمة والدوافع، فمن كانت همته عالية ودافعه الأجر الأخروي كان حماسه مستمرا إلى آخر يوم في التعليم، بل تجاوز إلى ما بعد التقاعد، ذات يوم سألت أحد المعلمين عن نشاطه فقال لي: "أدرس منذ عشرين سنة ونشاطي في آخر سنة كأول سنة بل أكثر ولله الحمد والمنة، وسر ذلك فيما أحسب أن دافعي هو الأجر الأخروي، فأنا أرى أن التدريس طريق إلى الجنة وعبادة أتعبد الله بها".
7- هل لك رسالة توصلها؟ بعض المعلمين يقول: "تخصصي لا يسمح لي أن أكون صاحب رسالة"، والحقيقة أن الرغبة غائبة لا الفرصة، فكل معلم يمكن أن يكون ذا رسالة وتأثير، حتى معلم الرياضة الذي يكثر التندر به لو أراد لأثّر في طلابه كما يؤثر معلم التربية الإسلامية.
8- كلمات الإحباط أسلحة قاتلة للهمم والنفوس، وأجدها أكثر الأمور انتشارا وتهاونا، فكلمة عابرة لا تلقي لها بالا تقصم ظهر معلم، وتضعف همة طالب، وتحبط ولي أمر، والواجب عدم التساهل معها ولا مع أصحابها، ولو كانت على سبيل المزاح، فإن السلاح لا يعرف نية صاحبه.
9- الموفق من اغتنم هذه اللحظات بمحاسبة نفسه أيا كان معلما أو طالبا أو وليا، ودوّن إخفاقات العام المنصرم وتطلعات العام المقبل، فلا شك أنه وقع منا قصور وأخطاء، وفي مقابلها نجاحات وإنجازات، مع ظهور جملة من الفرص التي تمنينا أن اغتنامها ولم نستطع، فهذه الورقة تهيؤك للعام المقبل وترقيك درجات في الأداء.
10- من الرقي والوعي ألا تكون إجازاتنا انسلاخا كاملاً من الدين والجد، فتُترك الصلوات، وتضيع الآيات، ويُسافَر إلى بلدان تمحو الأخلاق والقيم، مع فوضى عارمة في البيوت والجداول، وهذه ليست من المتعة في شيء، ولا تمت للترويح بصلة إلا عند الجهال، لم يمنعك أيها المبارك أحد من الترويح عن نفسك وأولادك، والاستجمام بعد التعب المبذول، لكن يبقى النظام العام قائما، من أداء الصلوات، والحفاظ على العبادات، مع انضباط الأخلاق، واستمرار الهمة العالية في الترقي بالجوانب الخفيفة كتعلم المهارات الرياضية، أو إتقان السباحة وركوب الخيل، أو تحسين الخط، أو إتقان برامج حاسوبية جديدة، ولا شك أن الهمة العالية تقتضي ما هو أعلى من ذلك كمراجعة تحصيل العام ولو قليلا حتى لا يتهدم البناء العلمي.
هذه دروس خرجت في نهاية العام لكنها خلاصة مركزة تستحق أن تُقرأ أول العام وآخره، وهنيئا لمن كان هذا العام زيادة له في دينه ودنياه.
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم آمين.
تم بحمد الله الثامنة مساءً من يوم الاثنين
الرابع من ذي الحجة لعام خمس وأربعين بعد الأربع مائة والألف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق