الجمعة، 20 مارس 2020

حقائق الفتن


حقائق الفتن



بسم الله الرحمن الرحيم

عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال:(أَشْرَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أُطُمٍ مِن آطَامِ المَدِينَةِ، فَقالَ: هلْ تَرَوْنَ ما أرَى، إنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ)([1])

من تأمل في واقعنا وقلب النظر في أحوالنا أدرك أننا غرقى في بحر من الفتن، فقد اقتربت الفتن منا بعد أن كانت بعيدة، وكثرت بعد أن كانت قليلة، واشتدت بعد أن كانت ضعيفة، وأصبح لزاما على كل مسلم أن يتفقه في باب الفتن وذلك حتى يدرك طريق النجاة، فإن سلفنا الأوائل لما اعتنوا به كان ذلك من أهم أسباب نجاتهم، ولما فرط فيه المتأخرون كان من أهم أسباب هلاكهم.
كل ما يحتاجه العبد قد جاء ذكره في شريعتنا الغراء، فديننا شامل كامل صالح مصلح لكل زمان ومكان ولكن العيب فينا لا فيه، فقد ورد ذكر الفتن في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتتابع أهل العلم على الحديث والتصنيف فيه بدء من الصحابة الأجلاء وانتهاء بالعلماء المعاصرين.
هذه الفتن حقيقة واقعة لكن لا يراها إلا من رزق البصيرة، وفي هذا المقام نتناول عددا من حقائق الفتن قاصدين بذلك بيان بعض مشاهد الفتن الواقعة، وتركيز النظر عليها حتى تعيننا في فهم هذا الموضوع وتكون مدخلا له، ومن الله التوفيق والسداد.

قبل الشروع في الحقائق نحن بحاجة إلى مقدمتين: الأولى: في معنى الفتن، والثانية: في أنواعها، وذلك حتى تفهم الحقائق على وجهها بإذن الله تبارك وتعالى.

المقدمة الأولى: في معنى الفتن
الفتن لها تعريفان، الأول في اللغة، والثاني في الاصطلاح، فأما في اللغة فهي جمع فتنة، والفتنة لها عدة معان أهمها معنيان:
الأول: الإحراق، قال الأزهري:(جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك : فتنتُ الفضة والذهب ، أذبتهما بالنار ليتميز الردي من الجيد ، ومن هذا قول الله عز وجل: "يوم هم على النار يفتنون" أي يحرقون بالنار)([2])، وهكذا هي الفتن تأتي على العباد لتحرقهم ليتميز الطيب من الخبيث.
الثاني: الاختلاف والاضطراب، قال ابن الأعرابي: (والفتنة اختلاف الناس بالآراء)([3])، وقال ابن كثير:(... وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض)([4])، وهذا المعنى حاضر في كلام الناس فتجدهم يقولون: اختلطت الأمور، واضطربت الأحوال.
وفي الاصطلاح: قال الجرجاني: (الفتنة هي ما يبين به حال الإنسان من الخير والشر)([5]) وقال المناوي: (الفتنة: البلية وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة)([6])

المقدمة الثانية: أنواع الفتن
تتعدد الفتن باعتبار تقسيماتها، ونورد ثلاث تقسيمات لإدراك صورة كلية عنها:

التقسيم الأول: باعتبار محل وقوعها تنقسم إلى قسمين: دينية ودنيوية:
فالفتن الدينية ما يقع في دين المرء وعلاقته مع الله، والدنيوية هي ابتلاءٌ يحلُّ على الخلق في أنفسهم، أو أهليهم، أو أموالهم، أو بلدانهم.

التقسيم الثاني: باعتبار موضوعها تنقسم إلى خمسة أقسام: الفتن السياسية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، وفتن الملاحم وأشراط الساعة:
فالفتن السياسية كالاقتتال على الملك وانتشار الظلم، والفكرية كالبدع من الإرجاء والرفض، وكالعقلنة والعصرنة، والاجتماعية كالحسد والتباغض والتنافر، والاقتصادية كالربا والمعاملات المالية المحرمة، والملاحم هي التي تكون في آخر الزمان، وأشراط الساعة بقسميها الصغرى والكبرى.

التقسيم الثالث: باعتبار نوعها إلى قسمين: شبهات وشهوات:
فالشبهات هي التي يشتبه على الإنسان فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال سواء في الأخبار أو الأوامر والنواهي.
والشهوات هي كل ما يشتهيه القلب، وهي عدة أنواع: شهوة المال، والمنصب، والنساء، والسماع، والمطاعم والمشارب.

بعد معرفة معنى الفتن وأنواعها ننتقل إلى حقائقها:

الحقيقة الأولى: أن الفتن حقيقة واقعة، ويزداد يقين القلب بها كلما نظرة إليها بنظر الشرع وتأمل في آثارها.
فالفتن ليست كما يظن بعض الناس أنها ضرب من ضروب الخيال، أو حديث عن الأوهام، أو كلام ينطبق على أشخاص بعيدين عنا وليس موجها إلينا!، وإنما الصواب أن الفتن حقيقة واقعة نعيشها في حياتنا صباحا ومساء، وأعظم دليل على صدق هذا: ذهاب الضروريات الخمس في سبيل الحق أو الباطل، فتجد أهل الحق يسترخصون أرواحهم وأموالهم وعقولهم في نصرة الحق، وكذلك أهل الباطل يفعلون فهم يبذلون أنفسهم وأعراضهم وأموالهم لنصرة الباطل والوقوف معه.
ويزداد يقين القلب بها إذا اتصف بصفتين: الأولى: النظر للفتن بالنظرة الشرعية، وهي ابتلاء واختبار للعباد، والصفة الثانية: تحصيل فقه الفتن وربطه بالواقع، والتأمل في آثار الفتن.
ولا ينجو العبد إلا إذا تعامل معها بجد وصدق، صدق في النظر إلى الفتن، وصدق في التعامل معها.

الحقيقة الثانية: أن الله جل وعلا هو من قدر الفتن لحكمة عظيمة، وهو من ينجي منها.
فمما يغيب عن العقول مع تتابع الفتن وازديادها هذه الأمور الثلاثة:
١) أن من قدر الفتن هو الله، قال تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.([7])
٢) أنه قدرها لحكمة عظيمة، قال سبحانه:{ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.([8])
٣) الالتجاء إليه سبب النجاة الأول، قال نبينا صلى الله عليه وسلم:(... تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ...).([9])
والناس في الفتن من حيث مشاعرهم تجاهها قسمان:
القسم الأول: يهتمون ويغتمون ويغضبون.
القسم الثاني: يفرحون ويأنسون ويستبشرون.

فالقسم الأول هم أصحاب اليقظة الذي يعلمون أن وقوع الفتن يدعو إلى الخوف والحذر والفرار إلى الله، والقسم الثاني هم أصحاب الغفلة الذين نسوا الله والدار الآخرة، وتعلقوا بالشبهات والشهوات، فيفرحون لاقترابهم من أهوائهم ولا يدرون أن هلاكهم فيها.

وبعض أصحاب اليقظة قد تدفعهم غيرتهم لسب الأمراء والعلماء وسائر القدوات ولعنهم ومعاداتهم اعتقادا بأنهم هم الجالبون للفتن، والحقيقة أن من قدر الفتن هو الله جل جلاله، وسببها ذنوب العباد وابتعادهم عن ربهم وخالقهم، فالله هو من أنزلها وهو من يرفعها، والواجب علينا العمل لا مجرد التشكي وندب الحظ.

ثم إن الله تبارك وتعالى قدر هذه الفتن لحكم عظيمة أهمها: اختبار العباد وامتحانهم، وذلك لأن ادعاء الإيمان سهل أما تحقيقه فلا يستطيعه إلا الصادقون وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى:{أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ ۝ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبينَ}([10]) وقوله تعالى:{أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ}([11]) ومن غاب عنه المقصد غاب عنه العمل.

وأعظم أسباب النجاة من الفتن الاعتصام بالله ودعائه والالتجاء إليه، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:(كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يُكثِرُ أن يقولَ: يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ فقلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ فَهل تخافُ علَينا؟ قالَ: نعَم إنَّ القلوبَ بينَ إصبَعَينِ من أصابعِ اللَّهِ يقلِّبُها كيفَ شاءَ).

الحقيقة الثالثة: أن الهالكين في الفتن كثير، والحق لا يعرف بالكثرة.
فالناس في الفتن من حيث النجاة والهلاك على أقسام أربعة:
فالقسم الأول: الساقطون من قبل الفتن وهؤلاء لا تزيدهم الفتن إلا سوءا والعياذ بالله، والقسم الثاني: من كان على شفا جرف هار فهؤلاء تسقطهم أول بوادر الفتن نسأل الله السلامة والعافية، والقسم الثالث: هم الذين يثبتون في أوقات وينزلقون أوقات أخرى، وهؤلاء تمحصهم الفتن فإما أن يثبتوا ويستمسكوا أو ينزلقوا في الوحل عافانا الله وإياكم، والقسم الرابع: الثابتون قبل الفتن وأثنائها وهؤلاء تزيدهم الفتن ثباتا واستمساكا جعلنا الله منهم.

وفي هذه الحقيقة إشارات:
الأولى: فيما يتعلق بكثرة الهالكين فإن العبد يسعى لدعوة الناس وتحذيرهم فإن استجابوا له فالحمد لله وإن لم يستجيبوا فلا ينشغل بهم، قال الله لرسوله:{لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفسَكَ أَلّا يَكونوا مُؤمِنينَ}([12]) أي: لعلك - أيها الرسول - لحرصك على هدايتهم قاتل نفسك حزنًا وحرصًا على هدايتهم.
الإشارة الثانية: أن الحق لا يعرف بالكثرة قال ابن مسعود - رضي الله عنه -:"الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك" فاثبت ولا يغرنك كثرة الهالكين، وتأمل في سنة القلة.
الإشارة الثالثة: المتوقع والله أعلم أننا لا نزال في أول هذه الفتن فمن سقط في أول الأمر فكيف سيكون حاله في وسط الأمر وآخره!

الحقيقة الرابعة: معرفة فقه الفتن نعمة والاشتغال به نعمة أخرى وهو من أسباب النجاة.
ففي ظل تلاطم أمواج الفتن يغيب عن كثير من العقول أن في الشريعة فقها لهذه الفتن، فمن هدي إلى معرفة هذا الفقه فهي نعمة من الله عليه، وإذا اشتغل به قراءة وتأملا وتدبرا ومدارسة ودعوة فهي نعمة أخرى، فيزيد على سائر الخلق بهاتين النعمتين، وهذه النعم تستحق الشكر وهي أعظم من النعم الدنيوية، فنحن ندرك الشكر على النعم الدنيوية لكننا قد لا ندرك الشكر على النعم الدينية، ومن شكر زاده الله، ومن كفر عاقبه الله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}([13]).

ومعرفة فقه الفتن من أسباب النجاة، فقد ذكر حذيفة ـ رضي الله عنه ـ وهو المتخصص في شأن الفتن أن من عرف الفتن نجا، وذلك لأنه يرى ظواهر الأمور وبواطنها بخلاف سائر الناس الذين يرون ظواهر الأمور فقط.

فقه الفتن يتحصل بفهم ما ورد في كتاب الله تبارك وتعالى والرجوع في ذلك لكتب التفسير، ثم ما جاء في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن كتب السنة جعلت كتبا خاصة للفتن، فتجد في صحيح البخاري "كتاب الفتن" وكذلك في صحيح مسلم وغيرها من كتب السنة فتقرأ شروحات أهل العلم على هذه الكتب، ثم يقرأ ما كتبه أهل العلم قديما وحديثا في الفتن فهناك الكثير من المصنفات، مع سماع دروس أهل العلم في هذا الموضوع.

الحقيقة الخامسة: عقول الناس مشغولة بالفتن العامة، متجاهلة للفتن الخاصة.
كشفت لنا الفتن ـ والله المستعان ـ أن المنكرات العامة ما هي إلا رأس الجليد في جبل المنكرات أما معظمه فهو في أنفسنا وأسرنا، فنحن كنا نحسن الظن بأنفسنا كثيرا ونسرد الثناء على إيماننا وتديننا، ولا نهتم بسوس الخلل الذي يدب في دواخلنا، فعلى مستوى الأفراد كل فرد عنده من المنكرات والمعاصي ما الله به عليم، وعلى مستوى الأسر فأفراد أسرنا عندهم وقوع غير ظاهر في الشبهات والشهوات وهذا يشمل جميع الأسر حتى الصالحة، وكثيرا ما يخجل الإنسان من إبداء المنكر الذي يمارسه في وسط لا تظهر فيه المنكرات، لكن لما جاءت المنكرات العامة أظهر جملة من الناس المنكرات التي كانوا يقيمون عليها سنوات لكنهم لا يجرؤون على إظهارها، ولم يجدوا إنكارا كبيرا وذلك لاختلاط الأمور واضطرابها وكثرة الفتن وتتابعها وانشغال كثير من الناس بأنفسهم.

في هذه الأجواء اشتغل ثلة من الناس بإنكار المنكرات العامة وهذا أمر مهم وواجب، لكننا رأينا غفلة عن المنكرات الخاصة التي ظهرت، وكثرت الانتكاسات التي تتابعت ـ وإنا لله وإنا إليه راجعون ـ ، ومن هنا ندرك حجم الضعف الموجود في الداخل ـ أي: أنفسنا وأسرنا وإخواننا ـ وأهمية العناية بالبناء، بل هو من أوجب الواجبات.

الحقيقة السادسة: غالب تأثير الإنسان على نفسه ومن تحت يده فليتفرغ لذلك.
أكثر كلام الناس في الفتن عن غيرهم، عن أحوالهم ومواقفهم وأخطائهم، ويحترق الكثير لما يرى وقد يتفرغ لانتظار هدايتهم وتمضي الأيام وهو على هذه الحال، ولم يدر أن غالب تأثير الإنسان خاصة في الفتن إنما هو على نفسه بدرجة كاملة، ثم بدرجة أقل على من تحت يده من زوجة وولد وتلميذ، فليجعل العناية بنجاة نفسه هي الأولى لأن الله سيسأله عن ما فعل، ثم يعتني بمن تحت يده، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ابدأْ بنَفسِكَ ثمَّ بمَنْ تعولَ) ويشتغل بعد ذلك بما تيسر له من هداية الناس فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا أدى ما عليه من الأخذ بأسباب نجاة نفسه ومن معه والهداية بيد الله.

الحقيقة السابعة: العمر ينقضي وأخبار الفتن لا تنقضي.
من التعاملات الخاطئة زمن الفتن: الانشغال بأخبار الفتن وبتحليلاتها وبأقوال الناس فيها، والحقيقة أن الأخبار محرقة الأعمار، قال ثابت البناني: إن مطرف بن عبد الله قال:(لبثت في فتنة ابن الزبير -يعني زمن الحجاج- تسعاً أو سبعاً، ما أُخبرت فيها بخبر، ولا استخبرتُ فيها عن خبر)، والواجب على العبد الاشتغال بالعمل وليس بالأخبار، نعم يأخذ الإنسان نظرة على ما يجري لكنه لا ينغمس فيها، لأنه يدرك أن هذه الأخبار لا تنتهي بينما العمر ينتهي، ولأن كثرة المعلومات والتصورات ليست من أسباب النجاة وإنما طاعة الله والتقرب إليه.

الحقيقة الثامنة: من لم يقف مع الحق في الرخاء لن ينتصر له في الشدة.
كان بعض الناس يرى الحق والباطل مجرد وجهات نظر، وليس صراعا بين طرفين أحدهما مع الشريعة والآخر ضده، وكان يرى موقفه هذا حيادا وتوسطا، فلما جاءت الفتن مال إلى أهل الباطل وذلك لأنه لم ينتصر للحق أيام الرخاء فلن يستطيع أن يدفع ثمن الوقوف معه أيام الشدة والفتن والمحن، ولم يرفع به رأسا ويفتخر بانتمائه لدين الله أيام السعة فمن باب أولى أيام الشدة.

الحقيقة التاسعة: التلبيس في معنى الفتن من أشد الفتن.
الفتن كما قدمنا لها معنى واضحا في الشريعة، ومفهوم مدرك عند أهل العلم، ومن الفساد الذي يقع أيام الفتن: تغيير هذا المعنى الوارد في الشريعة تلبيسا على الناس وإضلالا لهم، والملبسون كثر وتلبيسهم بعدة طرائق، ولكل منهم مصلحة يسعى لها، لكن من عرف المعنى الشرعي والتزم به سلم من ذلك كله بإذن الله تبارك وتعالى، وسأضرب مثالا على التلبيس لكن أرجو من القارئ أن لا يبقى حبيسا لهذا المثال حتى لا تفقد الفكرة جوهرها، فمن الأمثلة على التلبيس: من يصف الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأهل الفتن، ويخاطبهم قائلا: "أنتم بأفعالكم هذه تشعلون الفتن"، ولا شك أن فساد هذه العبارة ظاهر.

الحقيقة العاشرة: من لم يفهم الكليات ضاع جهده في تتبع الجزئيات.
فمن فقه الفتن أن يعرف المرء الحالة العامة للفتن والقواعد الكلية ونهج أهل الحق والباطل، وبعد ذلك يشتغل بما ينفعه، وأما من لم يدرك هذه الكليات فإنك تجده مع كل فتنة وكل جزئية يشتغل بالتأمل فيها والسعي للحكم عليها وما إلى ذلك، ثم يضيع عمره دون جدوى لا سيما أن جزئيات الفتن كثيرة ومتسارعة ولا تنتهي.

الحقيقة الحادية عشرة: الإفساد لا يصلح بالإفساد.
إذا كثر الفساد في أيام الفتن تطلع جملة من الناس إلى إزالته وإلى إصلاح الناس، وينبغي أن يعلم أن للإصلاح قواعد: أهمها: سلوك الطريق الشرعي في الإصلاح، فبعض الناس يظن أنه يُصلح بالإفساد كما أراد إخوة يوسف أن يصلحوا أباهم بقتل أخيهم {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}([14]) وهذا نهج مخالف لنهج القرآن {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}([15])، وأمثلة هذا كثيرة ومن أبرزها: الاعتقاد بأن الخروج على الحكام يصلح أحوال الناس ويزيل الفتن، والحقيقة أن الخروج يزيد الفتن ولا ينقصها.

الحقيقة الثانية عشرة: الثبات ليس مسألة عقلية، وإنما فكرة علمية عملية.
فمن الأخطاء الواقعة: الظن بأن تحصيل المعلومات فقط كاف في الثبات على الحق، وهذا خطأ والصواب أن الثبات يحتاج إلى علم مقرون بالعمل، فمن علم ولم يعمل زل، ومن عمل ولم يعلم ضل، والهدى في الجمع بين العلم والعمل، قال جل جلاله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}([16]) ، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسألَ عن عمُرهِ فيما أفناهُ، وعن علمِه فيما فعل، وعن مالِه من أين اكتسَبه وفيما أنفقَه، وعن جسمِه فيما أبلاهُ).([17])

الحقيقة الثالثة عشرة: الفتن مرحلة دروس وعبر.
هذه المرحلة التي تمر بالمسلمين فيها من العظات والدروس والعبر ما الله به عليم، ولذا فإن المؤمن الفطن هو الذي يعمل عقله كثيرا في البحث عن هذه الدروس، والاعتبار بالعبر، فيدونها وينشرها لينفع نفسه وإخوانه، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.([18])

هذا ما فتح الله به من حقائق وإشارات، وهي أشبه بمدخل في أهمية هذا الباب الشريف، وينبغي بعده أن ينتقل المسلم لما كتب في الفتن ويتفقه فيه، ومما أدل عليه والمصادر كثيرة: سلسلة دروس "شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري" للشيخ عبدالكريم الخضير، وكتاب "الفتن بين فقه الدفع وفقه الرفع" للشيخ جماز الجماز، ومحاضرة "موقف المسلم من الفتن" للشيخ عبدالله بن محمد الشهراني ـ رحمه الله، ومحاضرة "طبائع الفتن" لمحمد آل رميح، والله أعلم.

تم في الساعة الرابعة عصرا
من يوم الثلاثاء 1441.7.22هــ


([1]) أخرجه البخاري (1878)، ومسلم (2885)
([2]) تهذيب اللغة 14 / 296
([3]) تهذيب اللغة 14 / 299
([4]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 / 42
([5]) التعريفات للجرجاني، 171
([6])التوقيف على مهمات التعريف للمناوي، 257
([7]) سورة العنكبوت، 3
([8]) سورة آل عمران، 179
([9]) صحيح مسلم، 2867
([10]) سورة العنكبوت، 2 - 3
([11]) سورة البقرة، 214
([12]) سورة الشعراء، 3
([13]) سورة إبراهيم، 7
([14]) سورة يوسف، 9
([15]) سورة يونس، 81
([16]) سورة الصف، 2 ـ 3
([17]) سنن الترمذي، 2417
([18]) سورة ق،37

هناك تعليقان (2):

  1. مدونة جميلة جدا وذات اسلوب سلس وغير متكلف
    ولكن الخط الأصفر غير واضح ولا نستطيع قراءته

    ردحذف
    الردود
    1. أبشر بإذن الله أتدارك هذا.. شكر الله لك زيارتك

      حذف

لفتة (29) كيف أتقن فقه الحج؟

  [29] كيف أتقن فقه الحج؟ الأربعاء 25/3/1447هـــ المقبل على العلم الموفق فيه هو الذي يولي قضية ضبط العلم عناية خاصة، وذلك لأنها طريق...