مثبتات الخمول لطالب العلم
كثيرون هم طلبة العلم الذين ظهرت عليهم علامات النبوغ في وقت مبكر، وكانت الآمال تعقد عليهم، وينتظر الجميع اليوم الذي يكتمل فيه بناؤهم العلمي والإيماني، ثم يخرجون للناس لينفعوهم ويرفعوا الجهل عنهم، ولكن للأسف قطع التصدر المبكر طريقهم، فلا هم الذين أكملوا طريقهم، ولا هم الذين أحسنوا في نفع الناس، ولهذه المشكلة بالتحديد: "تصدر طلاب العلم" جاء هذا المقال ليعالجها، وإن كان الشباب من غير طلبة العلم بحاجة إلى حديث آخر يناسبهم، والمراد بالخمول هنا أي: خمول الذكر وهو التواضع وعدم الشهرة، وهو المعنى الذي اشتهر عند سلفنا وتعارفوا عليه.
تتابعت أقوال سلفنا الصالح -رحمهم الله تعالى- في التحذير من الشهرة، ومن ذلك:
- قال الإمام المروذي -رحمه الله-: سمعت أبا عبد الله يقول: (من بُلي بالشهرة لم يأمن أن يفتنوه).
- وقال هبة الله بن سعد بن طاهر الطبري -رحمه الله-: (الشهرة آفة وكل يتحراها، والخمول راحة وكل يتوقاها).
- وقال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: (ما صدق الله من أحب الشهرة).
- وقال أيوب السختياني -رحمه الله-: (والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه).
- وكتب سفيان الثوري إلى عباد بن عباد وكان في كتابه: (إياك أن تكون ممن يحبُّ أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يسمع قوله، وإياك وحب الرئاسة فإن الرجل يكون حبُّ الرياسة أحبَّ إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة، فتفقد قلبك، واعمل بنية).
- وقال أبو حازم المدني -رحمه الله-: (اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك).
- وقال الحسن -رحمه الله-: (إن الرجل ليكون فقهياً جالساً مع القوم، فيرى بعض القوم أن به عيّاً وما به من عيّ، إلا كراهية أن يشتهر).
- وقال بشر بن الحارث الحافي -رحمه الله-: (لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس).
- وقال أيضا: (من ابتلي بالشهرة فمصيبته جليلة، فجبرها الله لنا ولك بالخضوع والاستكانة والذل لعظمته).
- وقال ابن المبارك: قال لي سفيان -رحمهما الله-: (إياك والشهرة، فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة).
هذه الآثار العشرة وغيرها توضح لطالب العلم حقيقة الشهرة وخطرها، وحال السلف في الهروب منها، وقد تساهل الكثير اليوم في التصدر للناس، ولذلك أسباب:
السبب الأول: تساهل بعض المشايخ في تصدير طلابهم: فبعض المشايخ إذا رأى من تلميذه نجابة وتميزا في بعض الجوانب سماه شيخا، وأصبح يصب الثناء عليه صبا، ثم يشير عليه أو يأمره بالخروج إلى الناس ونفعهم، دون إدراك لخطر الشهرة عليه، ودون إدراك لضعف هذا الطالب وعدم اكتمال أهليته، فيتصدر الطالب استجابة لطلب شيخه وثقة برأيه.
السبب الثاني: وجود هذه التقنية التي تسهل التصدر: فقد كانت الشهرة فيما مضى صعبة على راغبيها، لكن وجود هذه التقنية اليوم سهلت الأمر جدا فيمكن لكل من أراد أن يكتب تغريدة يشاهدها الآلاف أو يصور مقطعا يشاهده الملايين بكل يسر وسهولة، وقد جرأ هذا الكثير من الشباب على الإقدام على الشهرة حتى ولو كان فارغا ليس عنده ما يقدمه!
السبب الثالث: شدة حاجة الناس: فمن أخطر الأمور التي توقع في التصدر: رؤية الشاب لشدة حاجة الناس للعلماء، والدعاة، والمربين، والمصلحين، مع قلة فيمن يسد هذه الثغور، فتدفعه الغيرة للتقدم لسد هذه الثغور وهو ليس بأهل لذلك، فيضر نفسه وغيره.
السبب الرابع: عدم استشعار الشاب لخطر التصدر: فكثير من الشباب بحاجة إلى فهم الحياة ممن سبقه في السن والعلم والتجربة، ومن أهمهم كبار العلماء والحكماء، وإذا غاب عنه هذا اجتهد اجتهادات خاطئة مبنية على نظرته القاصرة، ومن ذلك ما يرى في التصدر والشهرة من حسنات ومكاسب!
السبب الخامس: تطلع الشاب للمكاسب الدنيوية: فللنفس دوافع تدفعها، ومن تلك: الدوافع الدنيوية من حصول الجاه، والمال، وإقبال الناس، وسائر المتع الدنيوية، فرغبته فيها تدفعه لنيلها من طريق الشهرة، -وقد يكون سريعا- لكن آثاره وخيمة لا سيما إن كانت في العلم الشرعي.
وقد تأملت فوجدت أن المتصدرين ثلاثة:
أولهـــــــــم: من يتعمد التصدر.
وثانيهم: من لا يطلب التصدر، لكنه مع الأيام أعجب بنفسه، أو أعجب به الناس فدفعوه للتصدر فرضي.
وثالثهم: من تصدر وهو غير عارف بأنه صدْرٌ للناس، فهو مشهور لكنه يتوهم الخمول.
بعد هذا أحببت في هذه المقالة أن أجيب على سؤال ملح وهو:
ما المثبتات على خمول الذكر في هذا الزمن الذي تيسرت فيه الشهرة، وكثرت أسباب دفع الشباب للتصدر؟
وأذكر هنا عشرين مثبتاً وهي تحتاج إلى استعانة بالله ثم طول تأمل فيها -ومن الله التوفيق والسداد-:
المثبت الأول: المتصدر يبقى متعبا بين عطش التأصيل وتكاليف التصدر: من تصدر قبل التأهل لم تكتمل أهليته، ولم ينضج عقله، ولم يبلغ علمه، ويجد في نفسه عطشا وجوعا كبيرين للتأصيل العلمي، فهو يشتاق إلى الحفظ، والقراءة، والتلخيص، وتحصيل العلوم المختلفة، والتلذذ بالحضور عند كم من أهل العلم، والتنقل بين تراث السلف والانتفاع منه، لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يشبع نهمته لأن التصدر يأخذ من وقته الكثير، فهو بحاجة إلى التحضير والإلقاء، والجلوس للطلاب والإجابة على أسئلتهم، والدخول في حل جملة من المشكلات التي تعرض له ولهم، فتكون النتيجة أنه يعيش حالة من الاضطراب بين الأمرين فلا هو الذي أشبع نفسه، ولا هو الذي قدر على تكاليف التصدر!
المثبت الثاني: من تصدر أول عمره لم يجد قبولا كبيرا: فأقرانه لا يرونه شيئاً، ومشايخه من باب أولى، كما أن للعمر دوره، فغالب الناس من العامة وطلبة العلم، يقبلون على أخذ العلم من كبير السن، ولا يرون الشاب أهلا له، حتى ولو كان أكثر علما من الكبير، وذلك لأن ثقتهم بالعمر وطول السنين وكثرة التجارب كبيرة، وهم على حق في هذا غالبا، وبما أن الحال كذلك فمما يثبت الشاب النبيه ألا يشغل نفسه بالتصدر مبكرا لعلمه بهذا الأمر، وإن أراد تجربة عملية فليدلِ برأيه في قضية من القضايا التي تشغل الناس ولينظر هل يقبل الناس على رأيه أم لا؟ الحقيقة أنه سيجد تجاهلا كبيرا مع قليل من التسفيه والاحتقار، بينما يقبل الناس على سؤال الكبير عن رأيه ويأخذون به دون تردد.
المثبت الثالث: حب الشهرة قد يجر إلى التساهل في العبادات أو اقتحام المحظورات: وفي ذلك يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: (اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتودد إليهم، والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك أصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات، وإلى اقتحام المحظورات)، فبدلا من أن تكون الشهرة سببا لكسب الأجور والحسنات، تنقلب عليه فتكون سببا للذنوب والسيئات، ويعظم هذا إن كان صغير السن قليل العلم.
المثبت الرابع: تأجيل التصدر سبب في راحتك من الهموم: فمما يخفى على طالب العلم أن جملة من الهموم التي تدور في صدره، وتشغل ذهنه هي هموم متعلقة بالتصدر، فلو ترك التصدر أو أجّله لارتاح منها واشتغل بما ينفعه، ولذا يفكر في جملة من المشكلات التي تعرض له: كيف أجمع بين ضبط المتون وشرحها؟ كيف أشرح ما لم أفهم؟ كيف أجيب على ما لم أعرف جوابه من المسائل؟ كيف أدرّس هذا المتن وهناك من المشايخ الكبار غيري يدرسه؟ وكل هذه الهموم علاجها في ترك التصدر والتفرغ للتحصيل العلمي، وإذا تأهل فإنه لن يجد واحدا منها!
المثبت الخامس: طبيعة التحصيل البطء، وطبيعة العطاء السرعة: فلا يمكن الجمع بينهما في آن واحد! وإنما هما مرحلتان متتاليتان، وهذا في باب العلم لا الدعوة، فالدعوة إلى الله يمكن أن تحصل قدرا من العلم ثم تشتغل بدعوة الناس ونصحهم وإرشادهم مع استمراريتك في التحصيل، لكن تعليم العلم شيء مختلف، فلا تستطيع التعليم حتى تقطع مراحل كبيرة من التحصيل، كما أنه ليس كل العلم يتم بطريقة تحضير جزء وإلقائه، فبعض الشباب يقول: "حل مشكلة قلة التحصيل سهلة، فأنا أعوض بكثرة التحضير" والحقيقة في أمور:
أولها: أن العلم لا يدرك غالبا إلا بإدراك كامل الفن أو الكتاب، أما أخذه بطريقة الأجزاء فيوقع في أخطاء كثيرة.
وثانيها: أن التحضير لا يتيسر دائما لمن تصدر، لأن التحصيل العلمي هو الأصل، وأما الإعداد فمكمل.
وثالثها: إذا لم يتيسر لك التحضير فماذا أنت فاعل؟!
المثبت السادس: أصل التحصيل ما كان في الشباب: أما بعد التصدر فيُشغل الإنسان جدا، وتصبح المراجعة صعبة عليه فضلا عن استكمال التحصيل، ولذا ليس معه إلا ما حصّل، والغالب أن تحصيله يكون قليلا ضعيفا!، وذلك لأن جزءاً من مرحلة الشباب كانت في تخبط وفوضى في طريق التحصيل، ثم لما نضج وأدرك حصل قليلا ثم تصدر، فيبقى متألما دائما يتمنى الزيادة على ما عنده لكن يحول بينه وبين العلم إما كثرة الانشغال بالناس، وإما بعد زمن التحصيل و حصول فتور الهمــــــــــــــة -والله المستعان-، وهذا المعنى وهو "ليس مع الإنسان إلا ما حصّل" معنى ذو أثر عظيم على نفس الشاب لو أطال التأمل فيه.
المثبت السابع: المتصدر المبكر يكدر صفو شبابه بالصراعات: فمن المعلوم أن التصدر والبروز للناس يوجب العداء وكثرة الخلافات لأسباب عديدة منها: حسد الأقران، وعداء أهل الباطل، والاختلاف في العمل وغيرها، ومن تصدر مبكرا كدر صفو شبابه بهذه الصراعات، وقد كان يستطيع أن يؤخرها إلى آخر حياته، ويجعل صفاء الشباب لتحصيل العلم.
المثبت الثامن: مراجعة العلم لا تنحصر في التصدر: فمن المفاهيم الخاطئة عند بعض طلاب العلم ظنه بأن الطريق الوحيد لمراجعة العلم هو التصدر للتدريس، فقد يدرك خطر التصدر لكنه يبرر لنفسه أهمية مراجعة العلم، ويبدأ في أحيان عديدة بدروس خاصة أو يدرس عبر الشبكة العنكبوتية، أو يدرس بعض الشباب الصغار المبتدئين، ظنا بأن هذه الطرق ليست من التصدر ولا تؤدي إليه، لكن الحقيقة أن التصدر ليس فيه أنصاف حلول، فهي دائرتان لا ثالث لهما، إما التصدر أو عدمه، ولا يوجد مناطق رمادية بين ذلك، ولذا فمن سلك الطرق السابقة يجد نفسه بعد فترة من الزمن قد حقق التصدر الكامل ويمارسه كما يمارسه كبار المشايخ، ثم يقع له من الآثار ما يقع.
وهناك جملة من الطرق المعينة على مراجعة العلم، منها: القيام بالدعوة إلى الله مع عامة الناس، ومدارسة الأقران، والمراجعة الذاتية بطرق متعددة كالتسميع تارة، والكتابة تارة، وغير ذلك.
المثبت التاسع: من آفات التصدر معاملة الأقران معاملة التلاميذ: كثرة مزاولة المتصدر مبكرا للأمر والنهي والتوجيه مع طلابه، تجعله يسحب هذا التعامل على أصحابه أيضا فيأمرهم وينهاهم، ويقوده هذا لخسارة بعضهم، ولقلة انتفاعه ببعضهم الآخر، وبعض الأصحاب لا يصرحون بنقدهم لصاحبهم لكنهم يصمتون أو يغادرون، والحقيقة أن عدم التفريق بين التلاميذ والأصحاب يفقد عددا من المنافع لطالب العلم، كمعرفة آرائهم في القضايا المختلفة، وسماع نقدهم له، والاستفادة من مشاريعهم وبرامجهم.
المثبت العاشر: التصدر لذة قليلة مع ألم كثير: وهذا من المعاني التي تخفى على الشباب فيظن الكثير أن مرحلة التصدر ألذ من مرحلة التحصيل، والصواب هو العكس، فإن المتصدر مشغول بهموم الناس وآلامهم، وهو لا يجد وقتا للتلذذ بالطاعة، والعلم، والتأمل، والعلاقات، فإن وجد وقتا لشيء منها كان سريعا على عجل، وإلا فانشغاله بالناس كبيرٌ، ثم إن المتصدر يدرك سريعا جوانب ضعفه، وعدم قدرته على سد كثير من احتياجات الناس، فيكون هذا من أسباب ألمه المستمر، وإذا أضيف لهذا عدم وجود من يعينه من المشايخ وطلاب العلم في نفع الناس كانت المصيبة أكبر -والله المستعان-، ولذا تجد في كلام كبار المشايخ ندما كبيرا على تفويت مرحلة الشباب وعدم اغتنامها الاغتنام الأمثل.
المثبت الحادي عشر: التواضع سمة المتصدر المتأهل: ففي الغالب أن من يتصدر مبكرا يضيق صدره عن السماع والاستفادة من غيره، وكلما وجه إليه نقد أو طلب منه ما لا يستطيع بحث عن مخرج حتى ينفي بطريقة غير مباشرة الضعف عن نفسه، وعجزه عن القيام ببعض المهمات والأدوار، بخلاف من تصدر متأخرا تجد أن التواضع سمة غالبة فيهم وهم يستشعرون قلة علمهم وحاجتهم للتعلم حتى الموت مع قدرتهم على الكثير من الأعمال.
المثبت الثاني عشر: العلم رحلة جمع: يتصور بعض طلاب العلم أن العلم شيء قريب مجموع في مكان واحد يمكن أخذه بسهولة ثم الاشتغال ببثه بعد ذلك، والحقيقة غير ذلك، فالعلم رزق قد فرقه الله على العباد، وأنت بحاجة أن تسير في رحلة طويلة لجمع هذا العلم من صدور الرجال وبطون الكتب، وتأخذ من كل شخص ما يحسن، حتى تصل بعد سنوات أن يجتمع فيك ما تفرق في غيرك، وهذه الرحلة تستغرق عشرات السنين من التعلم، والبذل، والتحصيل، والتأمل، وليست وليدة يوم وليلة! وهكذا النضج لا يأتي دفعة واحدة وإنما يأتي مع الأيام والليالي ويترقى المرء شيئا فشيئا حتى يصل في وقت متقدم إلى حالة النضج الكاملة.
المثبت الثالث عشر: لا يرحم الناس المتصدر: من برز للناس وتصدى لحوائجهم اعتبروه ووقته ملكا لهم، وعاتبوه في تأخره عن إنجاز مطالبهم، ولذا يعاني المتصدر من عدم وجود وقت لنفسه وأهل بيته، ويظل يبحث عن نتف الأوقات ليراجع علمه، أو يشتغل بشيء من العبادة، أو يجلس مع أهله، ومن صور تعبه كذلك: أن الناس لا يعرفــــــــــــــــــون حاجته للإعداد ولإنضاج ما يقدمه لهم من خلاصات، فالخلاصة التي يقدمها لهم في فتوى أو محاضرة أو درس أتت بعد تعب كثير في الحفظ والقراءة والبحث والتأمل، فالناس لا يعرفون إلا الأخذ بلا توقف، ولذا إذا عرف الطالب هذا دفعه لإطالة وقت التحصيل، وللإكثار من إعداد الكتب والمواد العلمية والدعوية، حتى يختصر بذلك على نفسه في مستقبل الأيام.
المثبت الرابع عشر: المتصدر رأس حتى الموت: أي: أنه يكون صدرا ورأسا ومرجعا للناس حتى يموت، وكم تكون مدة ذلك التصدر؟ عشرين سنة؟ ثلاثين؟ أربعين؟ الله أعلم، لكن هذا يعني عدة أمور:
أولها: توقفه عن التحصيل لانشغاله بنفع الناس.
ثانيها: طول وقت العطاء، وهذا يعني إن لم يكن معه زاد كبير افتضح بعد وقت يسير!
المثبت الخامس عشر: المتصدر قبل التأهل يبقى مرتهنا لشيخه الأول: لأنه معجب به، وليس عنده الملكة ليستقل، فيبقى معظما لشيخه معتمدا عليه في كل شيء، وهذا إشكال كبير لأن شيخه مهما كان يبقى عنده جوانب قصور كبيرة، لكن لأن دائرة تحصيله لم تتسع فهو يعتمد عليه في كل شيء، كما أنه حرم نفسه من التعلم على سائر المشايخ والعلماء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اختياره للشيخ الأول قد لا يكون موفقا وإنما هو شيء تيسر في البدايات!
المثبت السادس عشر: العلاقات تأكل الأوقات: في زمن الطلب يكون الطالب ذا علاقات محدودة وباقي الوقت لنفسه وأهله، لكن بعد التصدر تزداد علاقاته وتكثر، وهذه العلاقات لها ثمن، فالناس يريدون من وقتك للتدريس، واللقاءات الخاصة، والإفتاء، وحضور أفراحهم وأتراحهم، وكلما زادت العلاقات زاد الوقت الذي يعطى لهم، فمن بنى نفسه بقوة وتمكن استطاع أن ينفع كل هؤلاء وأن يرتقي بهم، ولم يجد في نفسه كبير ألم لذهاب هذه الأوقات لأنه أعطى القسم الأول من حياته -التحصيل- حقه من الجهد والوقت، وقد آن أوان البذل والاشتغال بنفع الناس.
المثبت السابع عشر: التصدر يكشف حقيقة مستواك: كثيرا ما يحسن الطالب الظن بنفسه، ويعظمها، ويرفعها، ويعتقد أنه متمكن في مختلف الأبواب، فإذا تصدر كشفت له الحقيقة، فإن العزلة غطاء، والبروز للناس كشف لذلك الغطاء ومعرفة بحقيقة النفس، فاعرف حقيقة نفسك قبل الظهور.
المثبت الثامن عشر: المعرفة الكبيرة مقرونة بطول التحصيل: من يقضي في التحصيل وقتا قليلا تكون معارفه وتجاربه محدودة، أما من يطول وقت تتلمذه لا يكتب كما كبيرا من المعلومات فقط فيكون كالبحر الذي لا تكدره الدلاء، بل يجمع مع ذلك كما كبيرا من التجارب والخبرات لأنه يمر على آلاف من المشايخ والكتب والتجارب، ويصاحب من الأقران، ويتعرف على برامج وأشياء تكسبه النضج وهذا بخلاف من تكون فترة تتلمذه قصيره فتكون نظرته قاصرة على ما حصله في ذلك الوقت.
المثبت التاسع عشر: مشاريع غير المتأهل ليست بمنهجية: كل طالب عالم يسعى أن يكون له نتاج جديد ينفع به الناس، ويكون إضافة في الساحة الشرعية، لكنهم يتفاوتون في قيمة ما يقدمونه ويبذلونه، فالمتمكن يستطيع الإتيان بجديد، ويستطيع سد الثغرات الموجودة، والإضافة للمكتبة والساحة الشرعية، أما غير المتأهل فالأصل أن مشاريعه تكون ضعيفة ومكررة، وليس فيها جديد ولا إضافة، ويتأثر كثيرا بتقليد مشاريع مشايخه الذين درس عليهم، وكثيرا ما يدعي أنه أتى بجديد لكنه يدور للأسف في دائرة المكرر! وقد يصب جهده في جزئيات ليس لها كبير أهمية مع تركه لجوانب أهم كان ينبغي أن يفني عمره فيها، كما تجد بعضهم يتعلق بأي مشروع، المهم أن يكون له مشاركة يسعد بوجودها.
المثبت العشرون: لذائذ لا يذوقها المتصدر مبكرا:
- لذة التحصيل زمانا طويلا، فالعلم لذيذ، ولكل نوع منه طعم، فطعم الحفظ يختلف عن طعم الفهم، وطعم الحضور لا يشابه طعم التلخيص، والمتصدر يفوت هذه اللذائذ ليتصدر، ظانا أن لذة التصدر أعظم من لذة التحصيل وليس الأمر كذلك.
- لذة الحديث بتمكن فيما يُسأل عنه أو فيما يطلب منه شرحه! وليس خوف غير المتهيأ.
- لذة إنهاء علوم المشايخ، فلكل شيخ علم محدد رزقه الله إياه، وأنت في كل مرة تبهر بدخولك لتراث شيخ أو عالم وتشرع فيه حتى تنهيه فإذا أنهيته ذقت لذة وأنسا، وأصبحت قادرا على معرفة نقاط القوة والضعف في كل شيخ والاستفادة من كل واحد منهم فيما يحسن.
هذه صورة تقريبية لحال المتصدر قبل التأهـــــــــــل، عسى أن يكون في بيانها مانعٌ للنابغين من تضييع أنفسهــــــم، وقد قال ربيعة الرأي -رحمه الله-: (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه).
تم بحمد الله في الرابعة عصرا من يوم السبت
العاشر من ذي الحجة لعام ثلاث وأربعين بعد الأربع مائة والألف