من مواقف مشايخي
بسم الله الرحمن الرحيم
(وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ) [صحيح أبي داود: 3641]
ينفع الشيخ طلابه بما يلقي عليهم من معلومات، وبما يربيهم به من مواقف، وكثيرا ما تكون تلك المواقف حبيسة صدر الطالب، وإن اجتهد حدث بها أقرانه، لكني أردت في هذا المقال أن أكتب عشرة من المواقف التي رأيتها من مشايخي الفضلاء، اعترافا بفضلهم، وتسطيرا لخيرهم، وبرا بهم ووفاء.
مذكرة المنهجية
درسني الشيخ عبد الله بن محمد الشهراني ـ رحمه الله ـ في كلية الشريعة عام 1433، وكنت أسأله عن منهجية الطلب، وكيفية السير في طريق العلم، وقد أخبرته ذات مرة أني جمعت مجموعة من المحاضرات في مداخل العلوم ومنهجية الطلب وقررت أن ألخصها في مذكرة واحدة، فقال لي: "إذا أنجزتها أريد نسخة منها"، فقلت له: "أبشر"، ولما انتهيت منها ذهبت إليه بنسخة من المذكرة، فلما أخذها قال لي: "لقد خدمتني بهذا المذكرة، لا أدري كيف أشكرك؟!" فوقفت مندهشا لا أدري ماذا أرد على الشيخ، فهذه المعلومات التي جمعتها يعرفها الشيخ قبل أن أولد لكن من تواضعه يطلب نسخة، ويشكرني عليها!
يغض بصره في الطريق
حضرت في عام 1434 برنامج مهمات العلم بالمدينة النبوية للشيخ صالح العصيمي، وحصل عندي فوت ولحقت بالشيخ بعد الدرس لأقرأ عليه ذلك الفوت، والحقيقة أنه لم يكن مقصودي الأساسي القراءة عليه، لكني في تلك الخطوات اليسيرة التي مشيتها مع الشيخ من الحرم وحتى وصوله إلى الفندق رأيت شيئا شدني، وهو أن الشيخ لم يقع نظره على امرأة قط منذ قام من الكرسي وحتى دخل الفندق، وكانت طريقته أنه يجعل نظره وسطا فلا هو الذي ينظر عند قدميه، ولا هو الذي ينظر أمامه، وإنما يكون مستوى نظره حول أرجل الناس، وبهذا يعرف الطريق دون أن يقع نظره على النساء.
حضر جميع المجالس نائما!
في عام 1434 حضرت الدورة العلمية العقدية بجامع الراجحي ببريدة، ومن الدروس التي كانت فيها درس للشيخ محمد القناص في شرح كتاب الإيمان من صحيح مسلم بعد الفجر، ولم أكن معتادا على حضور الدروس العلمية بعد الفجر، فحضرت المجلس الأول وجلست أمام الشيخ، وسمعته يقول: "بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله" ثم نمت ولم أستيقظ إلا والشيخ يختم الدرس، فاستحييت من نفسي وعزمت أن أعوض في اليوم التالي، لكني للأسف لم أستطع ومضيت على ذلك خمسة أيام تقريبا، حتى قال لي أحد زملائي: "على الأقل لا تجلس أمام الشيخ إذا كنت ستنام" فجلست في اليوم الأخير في آخر المسجد، ولما ختم الشيخ الكتاب لا أدري كيف أتتني فكرة السلام على الشيخ، لكن كانت من باب تقدير الشيخ، وكنت متهيأً كامل التهيأ لعتاب الشيخ لأني أستحق ذلك، فذهبت للسلام عليه، وقلت له: "جزاك الله خيرا على جهدك"، فتفاجأت من رده حيث سلم علي بحرارة وقال: "الله ينفع بك، الله ينفع بك، الله ينفع بك" اختلطت مشاعري بين خجل وحب واستغراب، فكيف أنام ويدعو لي بأن ينفع الله بي؟! لكنه مربٍ جزاه الله كل خير.
دعوة في مسجد صغير
كنت في عام 1435 إماما لمسجد صغير بجوار بيتي، ورغبت أن أستضيف شيخنا سعد بن سعيد الحجري لإلقاء محاضرة في مسجدي، وكنت خائفا من عدم قبوله لأن المسجد صغير يتسع لخمسة صفوف ـ تقريبا ـ، وغالبا تكون محاضرات الشيخ في الجوامع الكبيرة، فاتصلت بمنسق الشيخ وطلبته فقال: "سأشاور الشيخ"، ثم اتصل يبشرني بموافقته، وجاء الشيخ وألقى المحاضرة وامتلأ المسجد عن بكرة أبيه، وعلمت أن الشيخ لا يكاد يقول لا من كثرة استجابته للناس، واستفدت من ذلك أهمية بذل الداعية لجهده ووقته لنفع الناس.
الشيخ ـ وفقه الله ـ كان يلقي في السنة 300 درس ومحاضرة، وكان يستهدف طلبة العلم والعامة على حد سواء ويقسم الأسبوع بينهما، وقد سألت أحد تلاميذ الشيخ عن السر الذي كان يدفع الشيخ لهذا البذل العظيم فذكر لي ستة أسباب:
1. دعاء الله تبارك وتعالى، ومن دعاه لم يخب.
2. حرصه على العبادة، والشيخ وإن كان كلامه قليلا إلا أن له أثرا على السامع، ولعله من أثر العبادة.
3. رؤية الشيخ للأثر.
4. تنظيم الوقت، فقد كان منظما مرتبا، فوقت للدعوة، ووقت للأسرة، ووقت للعلم وهكذا.
5. اغتنام اللحظة الحاضرة، وقد قال أحدهم للشيخ مرة: لماذا تتعب نفسك بنشاط كبير وكثير؟ لو أنك ركزته وقللته، فقال: "اغتنم خمسا قبل خمس، لا تدري قد أمرض أو يأتيني عائق فأتوقف".
6. أن الشيخ كان عنده حصيلة كبيرة من إعداد المواد الدعوية، فالتحضير لم يكن عائقا له، وهذه نقطة مهمة فإن من أبرز ما يعيق طلاب العلم عن نفع الناس: عدم عنايتهم بالتحضير المستمر.
نموذج في سرد المحفوظ
في عام 1438 سافرت إلى الرياض لحضور دورة علمية، ووافق ذلك إقامة الشيخ صالح العصيمي برنامجا في جرد أحد كتب السنة، فقال لي صاحبي: لماذا لا تحضر برنامج الشيخ صالح؟ فقلت: لأني جئت خصيصا للدورة العلمية التي أنا فيها، فقال: أقترح عليك أن تحضر ولو مجلس الافتتاح للشيخ، فقلت: لا بأس ورافقته، وأحمد الله أن فعلت، فمما استفدته أن الشيخ قدم بمقدمة قبل أن يبدأ في التعليق على الكتاب، وكانت تلك المقدمة في ثلث ساعة تقريبا، ربع ساعة منها سردها الشيخ من محفوظه سردا كأنه يقرأ من كتاب فلا إله إلا الله، لقد دهشت وفغرت فاي انبهارا بما أرى، وقد كنت في لحظتها محتاجا لدورة المياه لكني لم أستطع أن أفوت ذلك المشهد حتى انتهى، وبدأ الشيخ في التعليق فغادرت، وسبب تعجبي أنني أسمع كثيرا من الشيخ وغيره الوصية بالحفظ لكن أن أرى أمامي حافظا يسرد محفوظه بكل إتقان هذا شيء آخر له أثره البالغ على النفس.
كفيف وعرف أني لم أفهم!
في عام 1438 حضرت دورة جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض، ومن أجمل ما كان فيها درس للعلامة عبد الرحمن البراك ـ وفقه الله ـ، ولقد شدني في الشيخ شدة فقهه بالواقع رغم أنه كفيف، فهو يدرك الواقع أكثر من إدراك بعض المبصرين فسبحان من رزقه، ولقد حصل لي معه موقف طريف، أردت أن أسأله وكتبت السؤال وبعثت به لقارئ الأسئلة لكنه لم يقرأ السؤال، فعزمت على سؤال الشيخ بنفسي فلحقت بالشيخ بعد الدرس ولم أستطع محادثته إلا لما ركب السيارة فسلمت عليه وقلت له: "عندي سؤالان يا شيخ"، فقال بكل لطف: "تفضل الأول" فسألته، لكن لجلالة الشيخ لم أضبط الجواب، لا سيما أنها أول مرة أقابل الشيخ، فقال لي: "لم تفهم الجواب صح" فقلت: "نعم" فأعاد الجواب بإيضاح أكثر، ثم قال: "فهمت؟" قلت: "نعم"، ثم أجاب عن السؤال الثاني، فتعجبت من إدراكه لعدم فهمي وهو كفيف رفع الله قدره وأعلى منزلته.
الحفظ باب العلم
اتصلت على الشيخ عمير بن ظافر الشهري عام 1439 وطلبت منه أن أقرأ عليه، فقال: "على شرط"، قلت: ما هو؟، قال: أن تحفظ المتون التي سأشرحها لك، فوافقت، فقال: "اعلم أن أمر الشرح يسير، لكن المهم أن تجد من يعينك على نفسك بدفعك إلى الحفظ فلا يشرح لك حتى تحفظ"، وقد صدق ـ وفقه الله ـ فإن الطالب إذا وجد شيخا يلزمه بالحفظ حفظ، وإذا تساهل الشيخ في الحفظ فإن عمر الطالب يمضي وهو لم يحفظ!، وكان شيخنا يقرر جزءا يسيرا من المتن في كل مجلس نحفظه في البيت ونسمع للشيخ قبل أن يبدأ في الشرح.
علم ابن عثيمين وطلابه محفوظ
زارنا الشيخ علي الشبل عام 1439 في الجنوب، وكانت له كلمة في أحد الجوامع، فقال: هل عندكم من يسجل الكلمة؟ فاتصل أحد الحضور بإمام المسجد وقال له: هل عندكم مركز إعلامي يسجل الكلمة؟ فقال الشيخ علي: "ما نبغى مركز إعلامي، أي واحد يسجل الكلمة ولو بجواله" فأغلق المتصل الاتصال وقال: إن كان تقصد هذا فالأمر يسير، فقال الشيخ: "لا تصعب الأمور أهم شيء تحفظ الكلمة، ثم سكت برهة، ثم قال: "مما استفدته من شيخنا ابن عثيمين الحرص على تسجيل كل شيء من كلمات ودروس وخطب ومحاضرات، وللتسجيل فائدتان: الأولى: ألا يتقول عليك أحد، والثانية: أن يبقى علمك محفوظا ينتفع منه في حياتك وبعد مماتك".
وزارنا الشيخ محمد بن مبارك الشرافي في أبها عام 1442 لإلقاء دورة علمية فرأيت أحد طلابه يحمل كاميرا فيديو ويركبها قبل الدرس، ولم يبدأ الشيخ في الدرس حتى تأكد من انتهاء التجهيز، وكان من عادته الحرص على تصوير دروسه لتبث مباشرة على اليوتيوب، ولتبقى بعد ذلك محفوظة لمن أرادها.
هذان الموقفان لاثنين من تلاميذ العلامة ابن عثيمين الذي كان حريصا على التسجيل، وكان كما يقول الشيخ عبد الله الطيار يشتري أغلى الأجهزة لتسجيل دروسه، ولا يبدأ في الدرس حتى يكون الجهاز جاهزا، هذه الأخبار تكسبنا درسا مهما وهو الحرص على حفظ العلم ونشره، وها أنت ترى نتيجة ذلك أن علم ابن عثيمين وتلاميذه محفوظ بخلاف كثير من المشايخ والله المستعان.
شيخ يخدم تلميذه
في عام 1442 زارنا في الجنوب الشيخ الوليد بن سالم الشعبان لإقامة رحلة دعوية، وطلبت منه أن أقرأ عليه فوافق مشكورا، وكنت اقرأ في الأوقات التي بين الصلوات، لكنها لم تكفي لإتمام الكتاب، فقربت ذات يوم صلاة المغرب فقال لي: "ما رأيك أقود بك السيارة وأنت تقرأ؟" فوافقت وقرأت عليه في ذهابنا لصلاة المغرب، وذهابنا لصلاة العشاء، وأعجبني تواضع الشيخ وحرصه على إتمام الكتاب، ومن لطفه أيضا أننا في جلوسنا بين العشاءين كان معنا قهوة وشاي ومعجنات، فكان إذا رأى يدي امتدت لشراب أو أكل أطال في التعليق حتى أنتهي.
لا تفتح باب الشيطان
قرأت في عام 1442 على الشيخ حسب آل الشيخ محفوظي من القرآن، وكنت آتيه خمسة أيام في الأسبوع، وفي يوم من الأيام غبت، فلما جئت اليوم التالي قال لي: لم غبت؟ قلت: سهرت البارحة، قال: لأنك لم تحفظ وردك، قلت: نعم صحيح، فقال: ما فعلته خطأ إن فات عليك الحفظ فلا تغب، وإنما احضر وسمع شيئا مما سبق تسميعه أو راجع محفوظك أو اقرأ تلاوة حتى، المهم ألا تغيب فإنك إن غبت حرمت نفسك من الخير ذلك اليوم، وفتحت بابا للشيطان، وصعبت على نفسك العودة، لأن النفس إذا كانت ثابتة على شيء وجدت سهولة فيه، وكانت نصيحة مباركة لصدقها أولا، ولإرادة الشيخ الخير لي جزاه الله خيرا، فهو ينصح بهذا وهو يعلم أن هذه النصيحة ستتعبه.
هذه أزهار عشر، متعددة الروائح، استمتع بشم كل منها وإهدائه.
تم بحمد الله في السابعة صباحا من يوم السبت
الثلاثون من ذي القعدة لعام اثنين وأربعين بعد الأربع مائة والألف