سنن
الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [سورة
فاطر، 43]
من حكمة الله
تبارك وتعالى أن خلقنا وخلق هذه الحياة وما فيها، وجعل فيها سننا لا تتبدل ولا
تتغير، بعضها ذكر في كتاب الله وسنة نبيه، والبعض الآخر متروك لنظر المرء وتجربته
وتأمله وبحثه، وفي هذه المقالة أسعى لذكر عدد من سنن الحياة وقواعدها، وأهدف من
ذلك أن أختصر على نفسي وإخواني الطريق، لنحفظ بذلك أعمارنا التي هي رأس مالنا، وفي
المقابل فالمسكين هو الذي لا يفقه قواعد الحياة ولا يستفيد من تجاربها، فيبدأ من
حيث بدأ الآخرون ويضيع بذلك عمره والله المستعان، أسوق فيما يلي ثلاثين سنة وأشرح
كل سنة باختصار.
1 | لا تقاس الأمور بأولها:
كل من دخل إلى
شيء جديد سواء كان دراسة أو وظيفة أو زواجا أو سكنا أو غير ذلك، فمن الخطأ أن يحكم
على الشيء الذي دخله في أوله، والصواب أن يصبر على هذا الانتقال، وأن يمكث فترة
كافية، وبعدها يحكم على الأمر بمدح أو ذم، وبقاء أو ترك، لأن النفس تحب ما ألفته، فإذا
تغير عليها شيء قاومته في البداية ثم ألفته بعد ذلك، وقد تستلذ الجديد ثم تعافه.
2 | الرغبة تولد الوقت:
كثيرا ما نتحجج
عند المهمات الجادة بأنه لا وقت لدينا، والحقيقة أنه لا رغبة لدينا، بدليل أنها
تمر بنا أوقات فراغ كبيرة فلا نقوم فيها بالأعمال التي كنا نعتذر عنها، ولذا
فالصادق في طلب شيء هو الذي يوجِد له وقتا، وهنا ندرك أننا بحاجة لبيان أهمية
الأمور الجادة، وترسيخ اليقين بها أكثر من أي شيء آخر.
3 | لذة السير أعظم من لذة الوصول:
هذه سنة عجيبة!
فالمتقرر عند كثير من الناس أن الوصول لما يطمحون له من أهداف وأماني يحقق لهم لذة
وسعادة كبيرة، وهذا صحيح لكن الذي جربه المجربون أن اللذة التي يجدونها بوصولهم
للأهداف أقل من اللذة التي وجدوها وهم يسيرون لتلك الأهداف، ولذا فإن لذة السير
أعظم من لذة الوصول، ومن حقق هدفا عاليا كان يتمنى الوصول إليه يجد بعد برهة أن
وهج تلك الفرحة ينطفئ ولذتها تزول، ولذلك يعمد بعضهم لنفخ الروح في إنجازاته باستمرار
في المجالس واللقاءات وفي كل مكان، ومن هذه السنة نستفيد أمرين: الأول: أن يتلذذ
السائر بسيره ولا يكون همه آخر الطريق فقط، والثاني: أن لا يخلي المرء نفسه من
أهداف عالية باستمرار حتى لا يموت مبكرا.
4 | إذا فتحت بابا فُتحت لك أبواب:
من قواعد
الحياة أن من دخل إلى جانب من الجوانب، فإنه ما يلبث حتى يُفتح عليه باب يزيده
معرفة وعمقا في الجانب الذي اختاره، ثم هذا الباب يفتح عليه بابين، والبابان يفتحان
عشرة، والعشرة تفتح مائة وهكذا، وكلما أطلت المكث في الجانب الذي اخترته كلما زدت
فيه فقها، وعمقا، وتجربة، وتوسعت علاقاتك، وامتد تأثيرك، ومن هذه السنة نستفيد:
أولا: ألا تيأس ولا تحبط ظانا أن الوصول لما تؤمل صعب مستحيل، ما عليك إلا أن تطرق،
وتدخل، وتستمر، وستجد ما يسرك، ثانيا: أن هذه سنة عامة تنطبق على الخير والشر،
فاحذر يا رعاك الله من فعل ما يغضب ربك، فعلى سبيل المثال: إن مروج المخدرات عنده
من الطرق والأساليب والخبرات في جلبها وبيعها ما تعجب منه، لكنه فتح بابا ففتحت له
أبواب.
5 | تجد لذة الشيء مع من يتقنه:
هناك أشياء
كثيرة نشعر بالملل منها أو الألم، ونظن أن تلك طبيعة خاصة بتلك الأشياء، لكننا إذا
رأينا من يؤديها بإتقان شعرنا بلذتها، فعلم النحو مثلا نشعر بالملل في دروسه،
لكننا إذا وفقنا لأستاذ بارع يشرحه بأسلوب جميل وجدنا لذته، وقل مثل ذلك عن كثير
من أمور الحياة، فالمتقن لعمله يُسعد الآخرين، ويحبب الناس في العمل وفي إتقانه.
6 | لكل شيء جمهور:
نعتقد بفطرتنا
أن الناس لا تقبل إلا على الفضائل، ولا تنجذب إلا لمعالي الأمور، لكننا نصدم عندما
نجد من ينجذب للرذائل ويتلذذ بها، ويدفع ماله ووقته وعمره من أجل الوصول إليها!
والسنة المختبئة خلف هذا أن لكل شيء في الحياة جمهوراً، من فضائل ورذائل، من معالي
الأمور وسفسافها، من حق وباطل، من قليل وكثير، من جيد ورديء، وقد قال ربنا: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، ولذا لا
تستغرب من وجود أنصار للإلحاد، أو جماهير مقتنعة بالشذوذ أو غير ذلك مما هو موجود في
الحياة الدنيا، والذي يستفاد من هذا أمور: أولها: عدم الثقة المطلقة بفطر الناس
فإنها قد تفسد، فبعض الفضلاء يقول: "لا تتعبوا أنفسكم في صد الباطل فإن
النفوس لا تقبله" وهذا خطأ فإن الفِطر إذا فسدت تقبلت الباطل وتشربته ودعت
إليه، وثانيها: عدم مسايرة الناس فيما يشتهون، فاثبت على جديتك، وستجد من يقبل
عليك.
7
| لستَ أول السائرين فابحث عن التجارب:
أعجب كثيرا ممن
يكرر أخطاءه ولا يدرك هذه السنة، تيقن تماما يا صاحبي أن كل أمر من الأمور التي
تريد القيام بها، قد فعلها قبلك الكثير من الناس، والذكي هو من يختصر على نفسه
الطريق بالبدء من حيث انتهى الآخرون، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137].
8
| يهتم الناس بما دفعوا ثمنه:
من المعاني
التي أصبحت مؤمنا بها أن أكثر الناس يحتقر ما بذل بالمجان، سواء من الأمور الحسية
أو المعنوية، فالسلع التي تعطى لهم بالمجان أو تكون منخفضة السعر لا يكرمونها في
الغالب، وكذلك ما يبذل لهم من علم أو خبرة بلا مقابل، أو لم يتعبوا في الوصول إليه
لا يولونه اهتماما كبيرا، بينما الأشياء التي يدفع فيها المرء ثمنا ماديا أو
معنويا يشعر بقيمتها، ويستفاد من ذلك أمور: أولها: لا بأس أن يطلب المرء على جهد
يبذله مقابلا رمزياً بهدف أن يقدر الناس قدر ما يقدم لهم، لكن نحذر من أن تتحول الوسائل
إلى غايات، وثانيها: أن الثمن لا يقتصر على المال بل قد يكون عملا جادا كأن يلزم
بقراءة، كتاب أو تنفيذ عمل، أو غير ذلك.
9
| البشر نماذج متشابهة:
أو بتعبير آخر
"كل مخلوق مقلد"، من الأفكار التي نعتقدها أننا الوحيدون في أفكارنا
وإنجازاتنا وآلامنا، فيظن الواحد منا أن الفكرة التي تأتي على ذهنه لم يسبق أن
خطرت لأحد، وإذا حقق إنجازا ظن أنه الوحيد الذي حقق هذا الإنجاز ولم يسبقه غيره،
وإذا نزلت بأحدنا مصيبة تعاملنا على أننا الوحيدون المصابون بهذه المصيبة ولم يصب
قبلنا ولا بعدنا أحد بمثل ما أصبنا به، والحقيقة أننا بوصفنا بشرا نماذج متشابهة
في غالب تفاصيل حياتنا، فأفكارنا متشابهة ومتكررة، وإنجازاتنا متشابهة لمن حقق
شروطها، وآلامنا كذلك مكررة، قال ربنا:{كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا
قَدْ سَبَقَ} قص الله علينا قصص الأنبياء وأقوامهم لأن أحوالنا تشبه أحوالهم، ومن
فهم هذه السنة سلم من الغرور والحزن، فإذا أصابه خير ونعمة عرف أن من نالها كثير
فسلم من الغرور، وإذا نزلت به مصيبة عرف أن من وقعت له كثير فسلم من الحزن،
10
| نفع الناس حسنة تغطي العيوب:
علمتني الحياة أن نفع الناس حسنة تغطي جميع
جوانب الضعف في المرء فلا يُرى إلا قويا مميزا باهرا، ومصداق ذلك
أنك إذا اقتربت من عدد من القدوات لتشاهد حياتهم عن قرب، وتستفيد منهم أكثر، وجدت
في حياتهم أشياء كثيرة عادية، ووجدت نقصا وضعفا في عدد من الجوانب، لكن العطاء ستر
كل ذلك.
تستر بالسخاء فكل عيب *** يغطيه كما قيل السخاء
11 | وجود الأضداد في الحياة سر
توازنها:
قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، كثيرا ما
نتألم ونتذمر عند رؤية من يخالفنا في ديننا، أو أفكارنا، أو اختياراتنا، لكن هذا
الاختلاف ووجود الأشياء المتضادة ينتج توازن الحياة، فكيف ستكون حياتنا لو كانت
جميعها حق مع غياب الباطل؟ أو جميعنا من عرق واحد؟ أو جميعنا ذكورا دون إناث؟ أو كلنا
على رأي واحد؟ أو فكر واحد؟، لا شك أن الحياة ستكون مملة، وسيكون فيها الكثير من
الخلل، وهذا التفكير المقلوب يفيدنا بمثل هذه الفائدة.
والضد يظهر حسنه الضد *** وبضدها تتميز الأشياء
ليس المطلوب
منا محو الاختلاف، وإنما معرفة كيفية التعامل معه، ولذا فمن مفاتيح فهم
الحياة: معرفة فقه الخلاف - بكافة أنواعه: العقدي والفقهي والفكري والشخصي -، وفهم
أسبابه وكيفية التعامل معه.
12 | النقص مقترن بالبدايات
والكمال بالنهايات:
كل من ابتدأ
السير في طريق لازمه الضَعْف والقصور والجهل، ومع الأيام يزداد علمه، وتكثر خبرته،
ويقوى عمله، حتى يكون كماله في نهاية الأمر، قال ابن تيمية رحمه الله: "العبرة بكمال
النهايات، لا بنقص البدايات".
13
| ليست القوة في العلو وإنما في الثبات:
يذكر الناس أن الوصول إلى القمة أمر صعب لا
يفعله إلا القليل، فالتميز في الدراسة وأخذ أعلى الدرجات، والإتقان في الوظيفة وتحقيق
التميز فيها، والعناية بحفظ القرآن والعلم وغير ذلك من الأمور العـــــــالية التي
لا يفعلها إلا القليل من الناس، والسنة هنا تخبرنا أن القوة ليست في الوصول إلى
أعلى درجة، وإنما في الثبات عليها سنوات طويلة، لأن الثبات عزيز، ويحتاج إلى صبر
عظيم، وقد جاء (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُكثِرُ أنْ يقولَ:
"يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ وطاعَتِكَ").
14
| سبق العلم العمل:
إذا أردت
الشروع في أي عمل فتذكر أن تسبقه بالعلم، فتتعلم كيف تعمل قبل أن تعمل، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19]، وأكثر مشكلات
الناس مردها إلى أنهم عملوا على جهل، فذاك حج دون أن يتعلم أحكام الحج، والآخر
تزوج قبل أن يتقن فقه الأسرة، والثالث حل مشكلة حصلت له دون استشارة وهكذا.
15 | الانقطاع عن البناء المعنوي
يّهده بخلاف الحسي:
عندنا نوعان من
البناء: الأول: البناء الحسي كالبيوت والمساجد، والثاني: البناء المعنوي وهو
كتحصيل العلم، وبناء الوعي، وتربية الأبناء، ووصفت الثانية بالبناء لأنها عبارة عن
بناء يبنى في النفوس يقارب البناء الحسي، ولا ريب أن البناء المعنوي خير من الحسي
وأفضل، لكن الفرق بينهما أن الانقطاع عن البناء المعنوي يهده، فمن حصل العلم زمنا
ثم انقطع، أو بذل في بث الوعي فترة ثم توقف، أو اعتنى بتربية أولاده مدة ثم ترك،
فإنهم يعودون جميعا فيجدون أن البناء قد انهد، وضاع الجهد المبذول، وهذا خلافا
للبناء الحسي فإنك لو تركته بعد البدء فيه عشر سنوات وعدت إليه لوجدته كما تركته،
ومن هذا نستفيد أهمية الاستمرارية في المشاريع الكبرى حتى لا تذهب الجهود سدى.
16 | إذا تحقق للمرء الأساسيات
بحث عن الكماليات:
النفس البشرية
لها احتياجات، وهذه الاحتياجات تتدرج من الأساسي إلى الكمالي، ومن الأهم إلى المهم
إلى الأقل أهمية، ونفس الإنسان متعلقة بالاحتياجات الأساسية، من طعام، وشراب،
وسكن، وأمن، فإذا تحققت طلب النكاح والوظيفة والمال، ثم يمتد طلبه وسعيه لتحقيق
أمانيه حتى يوافيه الأجل، ولن تجد رجلا فقيرا لا يجد الطعام يبحث عن سيارة فارهة
أو ترويح ممتع، لأن النفس تطلب الأهم فالذي يليه.
17 | الحياة عبودية إما لله وإما
لغيره:
مما يغيب عن
أذهان كثير من الخلق أن الحياة قائمة على سنة العبودية، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} إما أن تتخذ الله
إلها وإما الهوى والأصنام، وكل من في الحياة عبيد، لكن يختلفون في معبوداتهم،
فأشرفهم من يعبد الله تبارك وتعالى، وأرذلهم من يعبد غيره على اختلاف المعبودات،
وكيف لعاقل أن يضل عن عبادة الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي بيده ملكوت السماوات
والأرض، نسأل الله ألا يكلنا لأنفسنا وألا يخذلنا، وأن يشرفنا بعبادته حتى الممات.
18
| المنجز لا ينتظر:
وبعبارة أخرى "المنجز لا يقف بالأبواب
طويلا"، علمتني الحياة: أن من أراد أن يكون منجزا فلا ينتظر أحدا، وصدق المغرد
محمد بن أشرف عندما قال: "لا تنتظر أحدًا.. الانتظار يقتل الضعفاء، ويُهدر
أعمار الأقوياء!" فانتظار شيخ مشغول تأمل أن يدرسك، أو انتظار
وجود صاحب يرافقك في طريق المعالي، أو انتظار فترة تتفرغ فيها لأهدافك، وغير ذلك
من الانتظارات من أكبر عوائق الإنجاز وإضاعة الوقت.
19 | لا مجانية في الحياة:
كل ما يبذل في
الحياة له ثمن، لكن الأثمان تختلف بين مادية ومعنوية، فذهابك للبقالة لشراء الخبز
ثمنه مادي، لكن مساعدتك لشخص في مشكلة ما، أو دلالة تائه في الطريق، ثمنها أجر من
الكريم سبحانه، نخلص في النهاية إلى أنه لا يوجد شيء يبذل بلا مقابل، فإما أن
المعطي ينتظر أجرا دنيويا أو أخرويا، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
20
| مبنى العلاقات على الأرواح لا الأجساد:
المقصود من هذه
السنة أن الأصل الذي تقوم عليه العلاقات هو تجانس الأرواح وتآلفها، لا تجانس
الأجساد وتشابهها، وقد جاء في الحديث: (الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ
مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ) [صحيح مسلم:
2638]، ولهذه
السنة صور: أولها: أن الأرواح إذا قبلت بعضها لم يضرها قرب الأجساد وبعدها، ولذا
تجد أن علاقة بين شخصين في مدينتين أقوى من علاقة شخصين يسكنان الحي نفسه،
وثانيها: أن جمال الأجساد ليس هو الرابطة التي توثق العلاقات، صحيح هناك من يبني
علاقاته على هذا لكنها تكون هشة سرعان ما تنقطع، ولذا نصيحتي لك أن تختار من
الأرواح ما كانت مرتبطة بخالقها، مشابهة لروحك.
21
| الإنسان كائن سريع الإلف:
كثير من الناس
إذا تغير عليه شيء من حياته تذمر واشتكى، لكن بعد فترة يسيرة سرعان ما يألف الأجواء
الجديدة، وهذا له وجهان: أحدهما ممدوح، والآخر مذموم، فالممدوح هو: رضا المرء بما
يقدره الله عليه من تبدل حاله من صحة إلى مرض، أو غنى إلى فقر أو غير ذلك،
والمذموم هو: إلف الإنسان للأحوال الرديئة والتبدلات الخطيرة كما يحصل في أزمنة
الفتن، فهذه إن رضي بها ولم يقاومها فسيهلك.
22|
من انقطع لشيء ناله:
عند الحديث عن
النجاح يتساءل الناس أسئلة كثيرة، ويتعجبون من وصول من وصل، والحقيقة التي يدركها
الناجحون أن أسباب النجاح قليلة واضحة معروفة، لكن القليل من يصبر عليها، ومن أهم
تلك الأسباب: التركيز على الشيء والتفرغ له، فكثرة المشتتات وتعدد الأهداف من
عوائق النجاح، ولذا فإن من انقطع لشيء ناله، بعد إعانة الله وتوفيقه، فمنه سبحانه
المدد والعون.
23|
الناس أسرى للمشهور:
من طبيعة الناس
أن الشيء المشهور يسيطر عليهم سواء كان عبارة أو منتجا أو شخصا أو فكرة، ولذلك
أسباب: أولها: أن أكثر الناس يعتقد أن الأشياء المشهورة هي الصحيحة التي لا يتطرق
إليها الخطأ والقصور، وثانيها: أن غالب الناس ليس عنده الهمة للبحث والتنقيب عن
الأشياء الخفية أو الأقل شهرة ومقارنتها بالأمور المشهورة للبحث عن الأجود،
وثالثها: أن جل الناس ليس عنده القدرة على تحمل ثمن رفض الأمور المشهورة لأنه سيجد
مقاومة من عامة الناس!
24|
الارتقاء المستمر بالتعلم المستمر:
أعظم الصفات التي ترتقي بالمرء هي: التعلم
المستمر، فكم من شخص عندما تخرج أو صعد المنبر أو كبُر في السن استغنى عن العلم، وكلما زاد
علم المرء زاد علمه بجهله، لكن من يصبر على التعلم حتى الموت إلا الكبار؟، وهؤلاء
الذين يرتقون فكريا وعلميا وسلوكيا، ويتبع ذلك علو تأثيرهم على الناس وكونهم
قدوات.
25
| التصورات أصل التصرفات:
كيف تتعامل مع
الله؟ كيف تتعامل مع والديك؟ كيف تتعامل مع الفقراء؟ كيف تنظم وقتك؟ الإجابات
العملية لهذه الأسئلة هي انعكاس لتصوراتنا، فعلى قدر تعظيمك لله يكون تعاملك معه
في العبادة، وعلى قدر اقتناعك بأهمية بر الوالدين يكون تعاملك معهما وخدمتك لهما، وعلى
قدر احترامك لنفسك ومعرفتك لنعمة الله عليك يكون تعاملك مع الفقراء، وعلى قدر
إدراكك لأهمية الوقت يكون تنظيمك وترتيبك له، وفي المقابل فإن الأفعال الفاسدة
سببها أفكار فاسدة، إذاً الدرس المستفاد هنا أن تصرفاتنا هي ترجمة لتصوراتنا، ومن
هنا تأتي أهمية العناية ببناء التصورات الصحيحة الناضجة، وحماية العقل من كل ما
يفسده.
26
| لا تشبع النفس من شهواتها:
هناك تصور خاطئ
عندنا جميعا ـ وهو كامن في نفوسنا ـ وخلاصته: أننا نستطيع أن نشبع الشهوات التي
تميل إليها، ولذا تجد بعض الناس يدع نفسه على هواها دون قيد أو زمام، والنتيجة
التي يصل إليه أنه يسقط في الحرام، وذلك لأن التعامل السابق ليس هو الصواب في
التعامل مع النفس، وإنما ضبطها ولجامها بلجام الشرع والعقل، ومن عدل عن ذلك ندم.
27 | لكل بداية نهاية:
سنة واضحة
مشهورة لكن فقهها قليل، ومن الإضاءات في ذلك: أولا: إذا كنت مدركا أن لكل شيء
نهاية فاستحضر النهاية من البداية، فإن هذا يغير تعاملك مع الأشياء، فمن يدرك أنه
يوما سيغادر الدنيا وينتهي عمره ويستحضر ذلك باستمرار سيتعامل بتعامل يختلف عمن لا
يستحضر هذا، ثانيا: ابدأ بالأولويات لأن النهاية أحيانا غير معلومة ومن عمل بذلك
سِعد، ثالثا: الإيمان بهذه السنة يكسب النفس طمأنينة فلا تجزع عند ذهاب ما كانت
تملكه.
28|
المشاكل استثناء:
الأصل في
الحياة سيرها باعتدال، لكنها لا تسلم من وقوع المشاكل التي تكدرها، وهذه المشاكل
عارضة، فإذا وجد المرء أن الأصل عنده وجود المشاكل، والاعتدال استثناء فهناك مشكلة
ما، إما من نفسه أو غيره، فمن وجد أن حياته الزوجية كلها مشاكل ولا وجود للاستقرار
إلا عرضا فهناك خلل ينبغي أن يعالج، ومن جد أن الأصل في وظيفته المشاكل مع مديره
أو الموظفين فليبحث عن سبب الخلل، وبعض الناس يكابر بأن هذا وضع طبيعي أو أن
المشكلة في الناس وليست فيه ولذا فهو يخسر نفسه وغيره!
29|
الرفع الزائد لسقف التوقعات موجب للترك:
الطموح من
الصفات المحمودة في الإنسان، لكنها إن زادت كدرت على المرء حياته، فكونك تطمح
لعلاقات مميزة شيء جيد، لكن أن تتوقع أنك ستجد ما تتمنى وأكثر فهذا يوقعك في
الإحباط الذي تقطع بسببه كثيرا من العلاقات وقد تعتزل الناس، وطموحك لتغيير حياتك
برسم خطة ووضع أهداف جيد، لكن وضع توقعات عالية للنتائج التي ترجوها يصيبك بالإحباط
والترك، فكن معتدلا في نظرتك وتوقعاتك.
30
| مبنى السعادة على الأشياء الصغيرة:
كثيرا ما كنا نعتقد أن تحقق السعادة لنا متوقف على امتلاكنا
لعدد من الأشياء الكبيرة والكثيرة، ولذا فإنا حُرمنا من السعادة زمنا طويلا، لكننا
أدركنا بعد ذلك أن سر السعادة في الأشياء الصغيرة التي نراها يوميا ولا نبالي بها،
فالذهاب إلى المسجد مبكرا، وقبلة على رأس والديك، وجلسة ملاطفة مع زوجة أو صديق، وتناول
وجبة لذيذة، كلها من أسباب السعادة، لكن وجود الاعتقاد الخاطئ عندنا جعلنا لا نصنف
هذه الأمور من السعادة فحرمنا منها!
أخيرا
بعد هذا البيان
أحب أن أنبه إلى أن الاهتمام بالقواعد والسنن والبحث عنها والعمل بها مفيد جدا،
لكن في المقابل هناك مساحات في حياتنا جمالها في سيرها بلا قواعد، كأمور الترفيه
والأذواق وغيرها، وإذا غاب عنك هذا فستخلط الأوراق!
هناك أفكار لا
ترتقي لمستوى السنن لكنها قواعد مفيدة، أحببت سوق بعضها هنا: التكرار مدرج الإتقان
في العلم والعمل، وينجز الإنسان تحت الضغط والإلزام، وليس علو الأشخاص محصورا في المشاهير، وما جاء
بسرعة ذهب بسرعة، ومزج الحياة بالعلم يكسب ذوقها، وإلف النعم ينسي قدرها، وسعادة كبار
السن في السوالف حكاية أو استماعا، وكثرة التجارب تصد عن العلم، ولا كمال في
الدنيا.
ختاما أوصي
إخواني بإعمال فكرهم في أحداث الحياة ومواقفها واستخراج أكبر قدر من السنن
والقواعد، فإن ذلك مفيد لأرباب العقول، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.
تم بفضل الله
في السابعة والنصف من صباح
يوم الأحد 13/9/1442هــ